مسألة : قال  
الشافعي   رضي الله عنه : "  
ولا يدخل  مكة   إلا بإحرام  في حج أو عمرة لمباينتها جميع البلدان ، إلا أن من أصابنا من رخص للحطابين ومن يدخله  
لمنافع   أهله أو كسب نفسه ، - ( قال  
الشافعي      ) : ولعل حطابيهم عبيد ومن دخلها بغير إحرام - فلا قضاء عليه .  
قال  
الماوردي      : وهذا كما قال ليس يخلو حال الداخل إلى  
مكة   لغير حج أو عمرة من ثلاثة أضرب :  
أحدها :  
أن يدخلها مقاتلا  إما قتالا واجبا أو مباحا من غير قتال معصية ، كأهل البغي إذا لجئوا إليها فأراد الإمام قتالهم ، فيجوز لمن دخلها على هذه الحالة مقاتلا أن يدخلها حلالا بغير إحرام ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم  
nindex.php?page=hadith&LINKID=922847دخل  مكة   عام الفتح سنة ثمان حلالا وعلى رأسه مغفر ، وقال : أحلت لي ساعة ، ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي دخلتها وعلى رأسي مغفر  ، قال أهل العلم : المراد بقوله "  
nindex.php?page=hadith&LINKID=922848ولا تحل لأحد بعدي     " إلا لمن كان في مثل حالي ؛ لأن الشرع إذا ثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت لغيره أمته إلا أن تقوم الدلالة على تخصيصه ؛ ولأن في تكليف المحارب الإحرام لدخولها مع ما هو عليه من حال القتال مشقة غالبة ، إذ لا يأمن رجعة عدوه وهو بإحرامه ، قد تجرد فلا يمكنه الدفع عن نفسه فاستباح لأجل ذلك ترك الإحرام والدخول إليها حلالا .  
والضرب الثاني :  
أن يدخلها  لمنافع   أهلها أو كسب نفسه  ، كالذين يكثرون الدخول إليها في كل يوم كالحطابين والساقين والجلابين وأصحاب المبرة ، فيجوز لهؤلاء دخول  
مكة   بغير إحرام ؛ لأنه كالإجماع لإقرار السلف لهم على ذلك ؛ ولأن في أمرهم بالإحرام مع كثرة دخولهم انقطاعا عن مكاسبهم ، ومشقة غالبة في تجديد الإحرام مع ترادف دخولهم ، فعذروا بترك الإحرام ، قال  
الشافعي   في الإملاء : أرخص للحطابين أن يدخلوا بغير إحرام إذا دخلوا في السنة مرة بإحرام فكان أمرهم أن يحرموا في السنة مرة ؛ لأنه لا مشقة عليهم في ذلك ، وليس هذا منه على الإيجاب ، وإنما قاله استحبابا وفي معنى الحطابين من خرج من  
مكة   مسافرا ، ثم ذكر أنه نسي شيئا فرجع لأخذه ، جاز أن يرجع محلا ، نص عليه  
الشافعي   في الإملاء .  
والضرب الثالث :  
أن يدخل  مكة   لغير هذين الأمرين ، إما متوطنا أو قادما إلى وطن أو تاجرا أو زائرا فهل يلزمه الإحرام لدخولها بنسك من حج أو عمرة أم لا ؟  على قولين :  
أحدهما : قاله في الإملاء أنه استحباب وليس بواجب ، وبه قال  
مالك   لقوله صلى الله عليه وسلم  
للأقرع بن حابس   حين قال : أحجتنا هذه لعامنا أم للأبد ؟ فقال : لا بل للأبد فدل على أن ما      
[ ص: 241 ] سوى حجة الإسلام وعمرته لا يلزم بالشرع ؛ لما روي عن  
ابن عمر   أنه دخلها حلالا بغير إحرام ؛ ولأنه ممن أسقط فرض نسكه ، فجاز أن يدخلها حلالا كالحطابين .  
والقول الثاني : وهو الصحيح قاله في الأم ومختصر الحج ، أن الإحرام لدخولها واجب لقوله تعالى :  
لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام     [ المائدة : 2 ] ، يعني : قاصدين ، فمنع من العدول عن قصد البيت لمن دخل  
الحرم   ، وحظر تحليل ذلك بتركه ، وقال تعالى :  
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا     [ البقرة : 125 ] . والمثابة والرجوع إليه بالنسك قال ورقة بن نوفل :  
مثاب لأفناء القبائل كلها  تخب إليه اليعملات الذوامل  
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :  
إن أبي  إبراهيم   حرم  مكة   فلا يدخلها أحد إلا محرما  وقال صلى الله عليه وسلم حين دخلها حلالا :  
nindex.php?page=hadith&LINKID=922850أحلت لي ساعة ، ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي     " فدل على اختصاصه عن غيره في الإحلال ؛ ولأنه لو نذر دخول  
مكة   أو المشي إلى البيت لزمه الإحرام لدخولها بأحد النسكين ، فلو جاز دخولها بغير إحرام لأحد النسكين لم يلزمه إذا نذر دخولها أن يحرم بأحد النسكين ، وفي إجماعهم على ذلك في النذر دليل على وجوبه في الدخول ؛ ولأن  
مكة   لما اختصت بالنسكين والقبلة تشريفا لها ، وحرم قتل صيدها ، وقطع شجرها لعظم حرمتها ، اختصت بالإحرام لدخولها مباينة لغيرها ، وعلى كلا القولين يستوي حكم القادم إليها من دون المواقيت أو من ورائها .  
وقال  
أبو حنيفة      : إن قدم من دون المواقيت لم يلزمه الإحرام ، وإن قدم من ورائها لزمه ، وليس بصحيح : لأن الإحرام تحية لتعظيم البقعة ، فاقتضى أن يستوي حكم القادم من دون الميقات وورائها في وجوبها واستحبابها .