الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا أحرم العبد بغير إذن سيده أحببت أن يدعه ، فإن لم يفعل فله حبسه ، وفيه قولان : أحدهما تقوم الشاة دراهم ، والدراهم طعاما ، ثم يصوم عن كل مد يوما ثم يحل ، والآخر لا شيء عليه حتى يعتق فيكون عليه شاة ( قال المزني ) أولى بقوله وأشبه عندي بمذهبه أن يحل ولا يظلم مولاه بغيبته ومنع خدمته ، فإذا أعتق أهراق دما في معناه " .

[ ص: 250 ] قال الماوردي : وهذا كما قال ليس للعبد أن يحرم بحجة ولا عمرة إلا بإذن سيده ؛ لأن العبد مملوك التصرف ، فلم يكن له تفويت ذلك بالإحرام ، فإن أذن له السيد في الإحرام جاز له أن يحرم ولم يلزمه أن يحرم ؛ لأنه تطوع لا يرتفق السيد به ، فلم يجبر العبد عليه ، وغلط بعض أصحابنا فقال : للسيد أن يجبر عبده على الإحرام ، وعلى العبد امتثال أمره فيه ؛ لأن فوات حجه عائد إليه ، فجاز إجباره عليه ، كما يجب على غيره من الأعمال التي يعود عليه نفعها وهذا غلط ؛ لأن الحج عبادة لا تصح إلا باعتقاد ، فإذا لم تجب بالشرع ، لم تجب بإجبار السيد كالصلاة والصيام الذي لا يجوز للسيد إجبار عبده على التطوع بهما ، وإن عاد إليه فواتهما ، فإن أحرم بإذنه وجب عليه تمكينه منه ، فإن أذن له بالعمرة لم يكن له أن يحرم بالحج ؛ لأنه أكثر عملا ، وإن أذن له بالحج جاز أن يحرم بالعمرة ؛ لأنها بعض أعمال الحج ، فإذا أحل من العمرة لم يكن له الإحرام بالحج إلا بإذن مستأنف ، فأما إذا أحرم العبد بغير إذن سيده ، فإحرامه صحيح وللسيد الخيار بين منعه أو تركه .

وقال داود بن علي : إحرامه بغير إذن السيد باطل لقوله صلى الله عليه وسلم : كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ؛ ولأن كل عقد ليس للعبد فعله إلا بإذن السيد فهو باطل إذا عقده بغير إذن السيد كالبيع والنكاح : ولأن العبد ممنوع من الإحرام إلا بإذن سيده ، كما أن الصبي ممنوع من الإحرام إلا بإذن وليه ، ثم ثبت أن إحرام الصبي بغير إذن وليه باطل لا يقف على إجازته ، فكذلك إحرام العبد بغير إذن سيده باطل لا يقف على إجازته .

والدلالة عليه قوله تعالى : الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ البقرة : 197 ] فكان على عمومه في الحر والعبد ؛ ولأن عبادات الأبدان لا يفتقر انعقادها إلى إذن السيد فإن استحق المنع منها كالصلاة والصيام إذا دخل فيه العبد تطوعا بغير إذن السيد كان منعقدا ، وإن كان للسيد أن يمنعه ، كذلك الحج بل حاله أوكد ؛ ولأن الإحرام اعتقاد بالقلب واعتقاد القلب لا يقف على إجازة سيده كالإسلام والكفر فكذلك الإحرام .

فأما الخبر فمتروك الدلالة .

وأما البيع والنكاح فالفرق بينهما وبين الحج من وجهين :

أحدهما : أن ذلك مما لا يقع موقوفا فجاز أن يكون باطلا بغير إذن السيد ، والإحرام يصح أن يكون موقوفا فجاز أن يصح إن كان بغير إذن السيد .

والثاني : أن النكاح عقد بالقول والفعل ، فجاز أن يبطل بغير إذن السيد ؛ لأنه يملك فعل عبده ، والإحرام اعتقاد فجاز أن ينعقد بغير إذن السيد ؛ لأنه لا يملك اعتقاد عبده ، وأما الصبي ففي إحرامه بغير إذن وليه وجهان لأصحابنا :

[ ص: 251 ] أحدهما : يصح ، فعلى هذا بطل الاعتراض به .

والثاني : لا يصح ، فعلى هذا الفرق بينه وبين العبد أن الإحرام اعتقاد والعبد من أهل الاعتقاد فصح بغير إذن سيده ، والصبي ليس من أهل الاعتقاد فلم يصح أن يكون محرما إلا باعتقاد وليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية