الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 294 ] مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وفي صغار أولادها صغار أولاد هذه .

قال الماوردي : وهذا لما قال فيجب في فرخ النعامة فصيل ، وفي جحش حمار الوحشي عجل ، فيختلف الجزاء بحسب اختلافه في الصغر والكبر .

وقال مالك : في الصغار والكبار جزاء واحد لا يختلف بصغره وكبره تعلقا بقوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ، فجعل الجزاء هديا ، ومطلق الهدي ما يجوز في الضحايا ، ألا تراه لو قال : لله علي أن أهدي هديا لم يجزه إلا ما يجز في الضحايا ولأن الصحابة حكمت في النعامة ببدنة ، وفي الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، ولم يسألوا عن صغر المقتول وكبره ، فلو كان الجزاء يختلف باختلاف الصغر والكبر لسألوا عن حاله ، ولافتقروا إلى شهادته ليفرقوا بين جزاء الصغير والكبير ، فلا أمسكوا عن السؤال ، ولم يفتقروا إلى المشاهدة على استواء الحكم في الصغير والكبير ، قالوا : ولأنه حيوان مخرج باسم التكفير فوجب ألا يختلف باختلاف حال ما أتلف من صغر وكبر كالرقبة في كفارة القتل لا تختلف باختلاف الصغير والكبير ، قالوا : ولأن الجزاء ليس يخلو من أن يكون جاريا مجرى الكفارات ، ومجرى الديات ، فإن جرى مجرى الكفارات لم يختلف باختلاف الصغير والكبير على ما بيناه ، وإن جرى مجرى الديات ، فالديات لا تختلف باختلاف الصغر والكبر ، على ما ذكرنا ، والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم ، فمثل الصغير صغير ، وليس الكبير مثلا للصغير ، ولأن الصيد قد يختلف في الصغر والكبر من وجهين :

أحدهما : باختلاف أجناسه .

والثاني : باختلاف أسبابه .

فلما كان الصغير والكبير باختلاف أجناسه معتبرا حتى وجبوا في الضبع كبشا ، وفي الغزال عنزا ، وفي اليربوع جفرة اعتبارا بالمثل في الجفرة وإن كان كل ذلك صيدا _ وجب أن يكون الصغر والكبر باختلاف أسبابه معتبرا فلا يجب في الصغير ما يجب في الكبير اعتبارا بالمثل في الجفرة ، وإن كان جميع ذلك صيدا ، ولأن جزاء الصيد معتبر بضمان الأموال وحقوق الآدميين دون الكفارات ، وديات النفوس من وجهين :

أحدهما : أنها تجب باليد وبالجناية ، والديات والكفارات لا تجب باليد وإنما تجب بالجناية .

والثاني : أن جزاء الصيد إنما وجب لحرمة ثبتت له بغيره ؛ وهو الحرم أو الإحرام كسائر الأموال التي وجب ضمانها لحرمة المال والكفارات ، وديات النفوس إنما وجبت لحرمة النفوس دون غيرها ، وإذا كان ضمان الأموال معتبرا وجب أن يختلف بالصغر والكبر كسائر [ ص: 295 ] الأموال ، ألا ترى أن من أتلف على آدمي عجلا صغيرا لم يجب عليه ما يجب على من أتلف على آدمي ثورا كبيرا ؟

وتحرير ذلك قياسا أن نقول : لأنه ضمان مختلف باختلاف الأجناس فوجب أن يختلف باختلاف الأسنان كسائر الأموال ، فأما الجواب عن استدلالهم بالآية ، أن الله تعالى جعل الجزاء هديا ، فللشافعي في الهدي إذا أطلق قولان :

أحدهما : أنه يتناول ما يطلق عليه الاسم ولو بيضة ، نص عليه في القديم ، فعلى هذا الاستدلال به ساقط .

والثاني : يقتضي ما يجزئ في الأضاحي ، وبه قال في الجديد ، فعلى هذا إنما يقتضي ما يجوز في الأضاحي إذا كان لفظ الهدي مطلقا ، والهدي المذكور في الآية مقيد بالمثل ، فحمل على تقييده دون ما يقتضيه إطلاق لفظه .

وأما الجواب عن حكم الصحابة رضي الله عنهم من غير مسألة عن صغير أو كبير : فلأن مفهوم السؤال يغني عن الاستفهام : لأن السائل عن جزاء النعامة يفهم عنه أنه لم يرد فرخ النعامة ، وكذا في سائر الصيد : لذلك لم يحتج إلى المسألة .

وأما قياسهم على الرقبة في الكفارات فالمعنى فيها أنها لا تجب باليد وإنما تجب بالجناية ، والجزاء باليد والجناية ، وأما قولهم : إنه لا يخلو أن يجري مجرى الكفارات أو مجرى الديات ، فالجواب أن يقال : قد يخلو من هذين : لأنه يجري مجرى أموال الآدميين ، على أنهم إن ردوه إلى الكفارات فقد ذكرنا الفرق بينهما ، وإن ردوه إلى الديات كان الفرق بينهما أن الديات لما لم تختلف باختلاف الأجناس والأنواع حتى كانت دية العربي كدية القبطي ، ودية الشريف كدية الدنيء ، ودية الأسود كدية الأبيض ، لم يختلف باختلاف الأسنان ، ولما كان الجزاء مختلفا باختلاف الأجناس ، اختلف باختلاف الأسنان ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية