الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا فيقضي "

قال الماوردي : وهذا كما قال ، قد ذكرنا أن المحصر إذا تحلل من إحرامه بالهدي والحلاق ، فلا قضاء عليه ، إلا أن تكون حجة الإسلام قد وجبت عليه قبل إحصاره فعليه أداؤها ، وإن وجبت عليه في العام الذي أحصر فيه لم يلزمه قضاؤها ، وقال أبو حنيفة : على المتحلل بالإحصار القضاء ، سواء كان إحرامه فرضا أو تطوعا ، فإن كان محرما بحج لزمه أن يقضي حجة أو عمرة ، وإن كان قارنا قضى حجا وعمرتين ، واستدل على وجوب القضاء برواية عكرمة قال سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة فسألت أبا هريرة وابن عباس فقالا : صدق ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحل من عمرته بالإحصار سنة ست بالحديبية ، قضاها سنة سبع ، فسميت عمرة القضية ، وعمرة القضاء ، وعمرة القصاص : ولأن عائشة - رضي الله عنها - لما حاضت بمكة ، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " اقضي عمرتك وأهلي بالحج " ، ثم أمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم ، فألزمها قضاء العمرة التي رفضتها ، وتحللت منها ، وكانت في حكم المحصر : لأنها لم تقدر على إكمال العمرة : لأجل الحيض ، ولا أمكنها المقام على العمرة إلى أن تطهر خوفا من فوات الحج : ولأنه خرج من نسكه قبل تمامه فوجب أن يلزمه القضاء ، كالفائت ، ولأن الحصر نوعان : عام ، وخاص .

فلما لزمه القضاء بالتحلل من الحصر الخاص ، وجب أن يلزمه بالتحلل من الحصر العام ، ودليلنا قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [ البقرة : 196 ] ، فذكر الإحصار ، وبين حكمه وهو الهدي ، فدل أنه لا موجب له غيره ، واستدل الشافعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم أحصر بالعمرة سنة ست ، وأحصر معه أصحابه وكانوا ألفا وأربعمائة ، ثم تحللوا معه ، فلما كان في السنة المقبلة ، وهي سنة سبع خرج للقضاء ، وخرج معه ناس من الصحابة ، أكثر ما قيل ، سبعمائة ، فموضع الدليل من هذا ، هو أن القضاء لو كان يلزمهم لذكره النبي صلى الله عليه وسلم لهم ليخرج معه جميعهم : لأن من أوجبه على الفور منع من التراخي ، ومن جعله على التراخي ، منع أن يجبر التأخير في ذلك العام : لأن مكة كانت إذ ذاك دار شرك ، وكان القضاء في غير العام الذي قضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم غير ممكن ، فلما لم يخرجوا وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ترك الخروج ، دل على أن القضاء غير واجب ، وروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا : لا قضاء على المحصر ، وليس لهما مخالف ، فكان إجماعا : ولأنه تحلل من نسكه بسبب عام ، لم ينسب فيه إلى التفريط ، فوجب أن لا يلزمه القضاء ، كالمتحلل بعد [ ص: 353 ] كمال الحج : ولأن دم الإحصار إنما وجب بدلا عما أحل بفعله من الأركان ، بدليل أنه لا يجوز أن يتحلل قبل نحره ، وإذا كان الدم بدلا منها ، وجب أن لا يلزمه القضاء كما لو أكملها .

فإن قيل : فيجب على هذا أن لا يلزم الفائت القضاء .

قلنا : دم الفوات وجب لأجل التأخير بدلا من الأفعال .

فإن قيل : إذا قام الدم مقام الأفعال ، يجب أن يجزئه ذلك عن حجة الإسلام .

قلنا : قد يكون الشيء بدلا عن الشيء في حكم ، ولا يكون بدلا عنه في جميع الأحكام ، كالتيمم بدل من الطهارة في سقوط الفرض ، وليس هو ببدل عنه في أن يؤدي به كل فرض .

فأما الجواب عن حديث الحجاج ، يقتضي أن المتحلل بالمرض يلزمه القضاء ، ولنا فيه كلام سيأتي .

وأما قولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى عمرته ، وسماها عمرة القضية والقضاء .

قلنا : هذه التسمية ليست من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه ، وإنما هو من أهل السير والمغازي ، فلم يكن فيه حجة على أنها سميت عمرة القضية والقضاء : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى عليها سهيل بن عمرو على أن يرجع في العام المقبل ، ولذلك سميت عمرة القصاص : لأنه اقتص منهم حين منعوه ، وفيها أنزل الله تعالى : والحرمات قصاص [ البقرة : 194 ] ، وأما عائشة - رضي الله عنها - فكانت قارنة : لقوله صلى الله عليه وسلم لها : طوافك بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك .

وأما قياسه على الفوات ، فالفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن الغالب من الفوات حدوثه من تفريط ، وليس كذلك الإحصار .

والثاني : أنه لما لزمه بعد الفوات أن يأتي بما قدر عليه من الأفعال ، لزمه القضاء ، ولما لم يلزمه بعد تحلل الإحصار أن يأتي بما قدر عليه ، لم يلزمه القضاء .

وأما الإحصار الخاص ، ففيه قولان :

أحدهما : لا قضاء ، فعلى هذا قد استويا .

والثاني : عليه القضاء ، فعلى هذا ، الفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : قد ذكرناه : وهو لحوق المشقة الغالبة في العام ، وعدمها في الخاص .

والثاني : أن في الإحصار العام يمتنع سلوك الطريق ، وذلك شرط في وجوب الحج ، فسقط القضاء ، وفي الخاص لا يمتنع سلوك الطريق ، فوجب القضاء .

[ ص: 354 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية