الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما إذا أرادت المرأة أن تبتدئ بالحج ، فإن كان فرضا جاز أن تخرج مع ذي محرم ، أو مع نساء ثقات ولو كانت امرأة واحدة ، إذا كان الطريق آمنا ، ولا يجوز أن تخرج بلا محرم ولا امرأة تثق بها وإن كان حجها واجبا ، ومن أصحابنا من قال : إذا كان الطريق آمنا لا تخاف خلوة الرجال معها ، جاز أن تخرج بغير محرم ، وبغير امرأة ثقة ، وهو خلاف نص الشافعي - رضي الله عنه - .

فأما إن كان الحج تطوعا ، لم يجز أن تخرج إلا مع ذي محرم ، وكذلك في السفر المباح ، كسفر الزيارة والتجارة ، لا يجوز أن تخرج في شيء منها إلا مع ذي محرم ، ومن أصحابنا من قال : يجوز أن تخرج مع نساء ثقات ، كسفر الحج الواجب ، وهو خلاف نص الشافعي ، وقال مالك : يجوز أن تخرج في الفرض مع نساء ثقات ، لكن لا يجوز أن تخرج مع امرأة واحدة ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن تخرج في الفرض والتطوع إلا مع ذي محرم ؛ استدلالا برواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها أخوها أو أبوها أو زوجها أو محرم ، وبرواية أبي [ ص: 364 ] سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع محرم ، وبرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحجن امرأة إلا مع ذي محرم : ولأنه سفر تقصر في مثله الصلاة ، فلم يجز لها قطعه بغير محرم كالأسفار المباحة ، ولأن حج التطوع قد يلزم بالدخول فيه كالفرض ، فلما لم يجز لها الخروج في التطوع إلا مع ذي محرم ، وإن صار بالدخول فرضا ، فكذلك إذا كان ابتداؤه فرضا ، ودليلنا على جواز خروجها بغير محرم ، رواية أبي عبيدة عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لتوشك الظعينة تخرج من الحيرة بغير خفار حتى تطوف بالكعبة ، ويوشك أن تفتح كنوز كسرى بن هرمز ، ويوشك الرجل يسعى يبتغي أن يؤخذ ماله صدقة فلا تقبل منه ، فلقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالكعبة بغير خفار ، وكنت في الخيل التي أغارت على المدائن حتى فتحوا كنوز كسرى ، والله لتكونن الثالثة ، فموضع الدليل من هذا أنه أخبر أن من استقامة الزمان أن تخرج المرأة إلى الحج بغير خفار ، ولو كان ذلك غير جائز لكان الزمان بفعله غير مستقيم ، فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : أحجوا هذه الذرية ، ولا تأكلوا أرزاقها وتدعوا أوباقها في أعناقها ، فأمر بالإذن للنساء في الحج وأن لا يمنعن منه ، ولم يشترط في إخراجهن ذا محرم : ولأنه سفر واجب ، فوجب أن لا يكون المحرم شرطا في قطعه : ولأن كل عبادة لم يكن المحرم شرطا في وجوبها لم يكن شرطا في أدائها كسائر العبادات ، واستدلال الشافعي وهو أنه إذا ادعي عند الحاكم على امرأة غائبة دعوى ، فإن الحاكم يبعث إليها ليحضرها ، فإن لم يكن لها محرم إذا كانت ممن تبرز ، فإذا وجب عليها الخروج بلا محرم في حق لا يتحقق وجوبه عليها ، إذ قد يجوز أن يكون مبطلا في الدعوى عليها ، فلأن يجب في حق يتحقق وجوبه عليها أولى ، فأما الجواب عن حديث أبي سعيد وأبي هريرة فمحمول بدلالتنا على السفر المباح دون الواجب ، وأما حديث ابن عباس فمحمول وإن صح على حج التطوع .

وأما قياسهم على التطوع فمنتقض بالهجرة كما أن التطوع قد يلزم بالدخول فيه كالهجرة ثم كان أضعف حالا من الهجرة ، ثم المعنى فيه لو صح أنه غير واجب ، وأما قوله : إن التطوع قد يلزم بالدخول كالفرض إن كان لازما بالدخول كالفرض فهو أضعف حالا من الفرض ، فيكون فرقا بين الفرض والتطوع ، كفرقهم بين الهجرة والتطوع .

التالي السابق


الخدمات العلمية