الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 28 ] باب خيار المتبايعين ما لم يتفرقا

مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار " . ( قال الشافعي ) وفي حديث آخر أن ابن عمر كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلا ثم رجع . وفي حديث أبي الوضيء قال : كنا في غزاة فباع صاحب لنا فرسا من رجل ، فلما أردنا الرحيل خاصمه فيه إلى أبي برزة ، فقال أبو برزة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " ( قال ) وفي الحديث ما لم يحضر يحيى بن حسان حفظه ، وقد سمعته من غيره أنهما باتا ليلة ثم غدوا عليه ، فقال : لا أراكما تفرقتما ، وجعل لهما الخيار إذ بقيا في مكان واحد بعد البيع . وقال عطاء يخير بعد وجوب البيع . وقال شريح : شاهدا عدل أنكما تفرقتما بعد رضا ببيع أو خير أحدكما صاحبه بعد البيع ( قال الشافعي ) وبهذا نأخذ ، وهو قول الأكثر من أهل الحجاز ، والأكثر من أهل الآثار بالبلدان ( قال ) وهما قبل التساوم غير متساومين ، ثم يكونان متساومين ، ثم يكونان متبايعين ، فلو تساوما فقال رجل : امرأتي طالق إن كنتما تبايعتما كان صادقا . وإنما جعل لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيار بعد التبايع ما لم يفترقا ، فلا تفرق بعدما صارا متبايعين إلا تفرق الأبدان " .

قال الماوردي : اعلم أن العقود على أربعة أقسام :

أحدها : ما كان غير لازم من جهة المتعاقدين في الحال ، ولا يفضي إلى اللزوم في ثاني حال .

والثاني : ما كان غير لازم من جهة المتعاقدين في الحال ، ولكن قد يفضي إلى اللزوم في ثاني حال .

والثالث : ما كان لازما من جهة أحد المتعاقدين في الحال دون العاقد الآخر بكل حال .

[ ص: 29 ] والرابع : ما كان لازما من جهة المتعاقدين في الحال .

فأما القسم الأول : وهو ما كان غير لازم من جهة المتعاقدين في الحال ، ولا يفضي إلى اللزوم في ثاني حال ، فهو خمسة عقود :

الوكالة ، والشركة ، والمضاربة ، والعارية ، والوديعة .

فالخيار فيها مؤبد من جهتي المتعاقدين معا . فإن شرط فيها إسقاط الخيار ، بطلت : لأنها تصير بإسقاط الخيار لازمة ، وهي عقود جائزة غير لازمة .

وأما القسم الثاني : وهو ما كان غير لازم في الحال ، ولكن قد يفضي إلى اللزوم في ثاني حال ، فهو خمسة عقود :

الجعالة : وهي قول الرجل : من جاءني بعبدي الآبق فله دينار .

والعتق بعوض ، كقوله : اعتق عبدك عني بدينار .

واستهلاك الأموال بالضمان كقوله : ألق متاعك في البحر وعلي قيمته .

والقرض ، والهبة .

فهذه العقود الخمسة غير لازمة في الحال ، فإن جيء بالآبق ، وأعتق العبد ، وألقي المتاع في البحر ، واستهلك القرض ، وأقبضت الهبة ، لزمت . فيكون الخيار فيها قبل لزومها للمتعاقدين معا .

فإذا لزمت سقط الخيار من جهتهما جميعا .

فلو شرط فيها إسقاط الخيار قبل لزومها ، أو شرط إثبات الخيار فيها بعد لزومها ، بطلت .

وأما القسم الثالث : وهو ما كان لازما من جهة أحد المتعاقدين دون الآخر ، فهو ثلاثة عقود :

الرهن والضمان والكتابة .

فالخيار فيها ثابت للمرتهن دون الراهن ، وللمضمون له دون الضامن ، وللمكاتب دون السيد . فإن شرط إسقاط الخيار في الجهة التي فيها الخيار ، أو شرط إثبات الخيار في الجهة التي ليس فيها الخيار ، بطلت .

وأما القسم الرابع : وهو ما كان لازما من جهة المتعاقدين معا فهو على أربعة أقسام :

أحدها : ما لا يثبت فيه الخيار لواحد من المتعاقدين بحال ، لا في المجلس ، ولا بالشرط ، وذلك ثلاثة عقود :

النكاح ، والخلع ، والرجعة .

[ ص: 30 ] ليس فيها إذا تمت خيار مجلس ولا خيار شرط .

فإن شرط فيها أحد الخيارين ، بطلت .

والقسم الثاني : ما لا يدخله خيار الشرط . واختلف أصحابنا في دخول خيار المجلس فيه على وجهين ، وذلك ثلاثة عقود :

الإجازة ، والمساقاة ، والحوالة .

وهل تبطل باشتراط خيار المجلس ؟ على وجهين :

والقسم الثالث : ما لا يدخله خيار الشرط ، ويدخله خيار المجلس قولا واحدا : وهو ما كان القبض قبل الافتراق شرطا في صحته ، وذلك عقدان :

المصرف ، والسلم .

فإن شرط فيها خيار الثلاث بطلا .

والقسم الرابع : ما يدخله خيار المجلس بغير شرط ، وخيار الثلاث بالشرط .

وهو سائر عقود البياعات .

يثبت فيها خيار المجلس بالعقد من غير شرط .

وبمذهبنا في ثبوت خيار المجلس في سائر البياعات قال من الصحابة : عثمان ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو برزة الأسلمي .

ومن التابعين : شريح ، وابن المسيب ، والحسن ، وعطاء ، وطاوس .

ومن الفقهاء : الزهري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق .

وقال أبو حنيفة ، ومالك : البيع لازم بالإيجاب والقبول ، ولا يثبت فيه خيار المجلس بحال .

استدلالا بقوله سبحانه وتعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم [ البقرة : 282 ] فندب إلى الإشهاد على البيع ، لأجل الاستيثاق فيه ، فلو كان لأحدهما الفسخ بعد العقد المشهود عليه ، لم يحصل الاستيثاق ، ولبطلت فائدة الإشهاد . وبرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار ، فلا يحل له أن تفارقه خشية أن يستقيله " . ولو جاز لأحدهما الفسخ من غير استقالة لم يكن لنهيه عن الافتراق خشية الاستقالة معنى ، فدل على أن الفسخ لا يستحق إلا بالاستقالة .

وبما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : " البيع عن صفقة أو خيار " .

[ ص: 31 ] فنوع البيع نوعين : نوعا أثبت فيه الخيار بالشرط ، ونوعا نفى عنه الخيار من غير شرط ، فعلم أنه لا يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح .

ولأنه عقد معاوضة ، فوجب أن لا يثبت فيه خيار مجلس كالنكاح .

ولأنه عقد يلحقه الفسخ ، فوجب أن لا يثبت فيه خيار المجلس كالكتابة .

ولأنه خيار مجهول ، لم يوجبه نقص ، فوجب أن لا يثبت في البيع كالمشروط من الخيار المجهول .

ولأن تأثير التفرق إنما هو الفسخ لا اللزوم ، ألا ترى أنهما إذا تصارفا ، ثم افترقا ، من غير قبض ، بطل الصرف ، وإذا كان تأثير التفرق هو الفسخ ، لم يجز أن يلزم به العقد : لأنه لا يجوز أن يكون الشيء الواحد مؤثرا في فسخ العقد وفي إلزامهما معا في حال واحدة ، لأنهما ضدان : ولأن البيع لما لزم بتراضيهما بعد العقد ، وهو أن يقول أحدهما لصاحبه : اختر البيع ، فيختار ، لم يجز أن يلزم بتراضيهما حال العقد ، ووجب أن يكون لازما بمجرد الإيجاب والقبول ، لأن الإيجاب والقبول ، إنما هو رضا منهما بالعقد ، ألا ترى أنهما لو كانا عند الإيجاب والقبول مكرهين لم يصح العقد .

فصل : والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه : ثبوت السنة به من خمسة طرق :

فأحدها : حديث ابن عمر ، وهو وارد من طريقين :

أحدهما : من طريق نافع . والثاني : من طريق عبد الله بن دينار .

فأما نافع فقد روي عنه من طريقين : أحدهما : ما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا " .

والثاني : رواه الشافعي عن سفيان عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا تبايع المتبايعان البيع ، فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار ، فإن كان عن خيار فقد وجب " . قال نافع : وكان ابن عمر إذا ابتاع البيع ، فأراد أن يوجب البيع مشى قليلا ثم رجع .

وأما عبد الله بن دينار فقد روي عنه من طريقين :

أحدهما : رواه الشافعي عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا ، أو يكون بيعهما عن خيار ، فإذا كان البيع عن خيار فقد وجب " .

[ ص: 32 ] والثاني : رواه الشافعي عن وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا ، أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر " .

والثاني : حديث أبي برزة . رواه الشافعي قال : أخبرنا الثقة يحيى بن حسان عن حماد بن زيد عن جميل بن مرة ، عن أبي الوضيء قال : كنا في غزاة ، فباع صاحب لنا فرسا من رجل ، فلما أردنا الرحيل خاصمه فيه إلى أبي برزة ، فقال أبو برزة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " .

قال الشافعي : وفي الحديث ما يبين هذا ، لم يحضر يحيى بن حسان حفظه ، وقد سمعته من غيره : أنهما باتا ليلة ، ثم غدوا عليه ، فقال : ما أراكما تفرقتما ، وجعل لهما الخيار إذا باتا مكانا واحدا بعد البيع .

والثالث : حديث حكيم بن حزام رواه الشافعي قال : أخبرنا الثقة يحيى بن حسان عن حماد بن سلمة عن قتادة ، عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا وجبت البركة في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت البركة من بيعهما " .

والرابع : حديث أبي هريرة . رواه أبو زرعة عن عمرو بن حريث عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مناديه أن ينادي ثلاثا " لا يفترقن بيعان إلا عن تراض " .

والخامس : حديث عمرو بن شعيب : وقد تقدم ذكره في دليل المخالف .

فدلت هذه الأخبار كلها بصريح القول ودليله على ثبوت خيار المجلس للمتعاقدين معا ما لم يتفرقا بالأبدان ، أو يجعل أحدهما لصاحبه الخيار ، فيختار .

فإن قيل : فإنما جعل لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخيار ما لم يتفرقا بالكلام : فيكون المراد بالافتراق افتراق الكلام دون افتراق الأبدان : وهو أن يكون للمشتري الخيار بعد بذل البائع في أن يقبل أو لا يقبل ، وللبائع الخيار قبل قبول المشتري في أن يرجع في البذل أو لا يرجع ، فإذا قبل المشتري ولم يكن قد رجع البائع ، فقد تم البيع ، وانقطع الخيار سواء افترقا بالأبدان أو لم يفترقا .

[ ص: 33 ] قالوا : وهذا أولى من حمله على افتراق الأبدان من وجهين :

أحدهما : أنه معهود الافتراق في الشرع قال الله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته [ النساء : 130 ] يعني : بالطلاق والطلاق كلام .

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " يعني : في المذاهب .

والثاني : أن حمله على التفرق بالكلام حقيقة ، وعلى التفرق بالأبدان مجاز : لأنه جعل الخيار للمتبايعين ، وهما يسميان في حال العقد متبايعين حقيقة ، وبعد العقد مجازا ، كما يقال : ضارب ، فيسمى بذلك في حال الضرب حقيقة ، وبعد الضرب مجازا ، وإذا كان كذلك كان حمله على الحقيقة أولى من حمله على المجاز ، فثبت بهذين الوجهين أن المراد به التفرق بالكلام دون التفرق بالأبدان .

فالجواب عنه : دليل ، وانفصال . فأما الدليل على أن المراد به التفرق بالأبدان دون الكلام فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أن التفرق لا يكون إلا عن اجتماع ، فإذا تفرقا بالأبدان بعد البيع ، كان تفرقا عن اجتماع في القول حين العقد وعن اجتماع بالأبدان .

ولا يصح تفرقهما بالكلام ، لأنهما حال التساوم مفترقان ، لأن البائع يقول : لا أبيع إلا بكذا ، والمشتري يقول : لا أشتري إلا بكذا .

فإذا تبايعا فقد اجتمعا في القول بعد أن كانا مفترقين فيه . وهذه دلالة أبي إسحاق المروزي .

والثاني : أن خيار المشتري بعد بذل البائع وقبل قبوله معلوم بالإجماع ، إذ لو سقط خياره ببذل البائع لوجبت البياعات جبرا بغير اختيار بعد اختيار ، ولأفضى الأمر فيها إلى ضرر وفساد ، والخيار بعد البيع غير مستفاد إلا بالخبر ، فكان حمل الخبر على ما لم يستفد إلا منه أولى من حمله على ما استفيد بالإجماع ، لأن لا يعرى الخبر من فائدة . وهذه دلالة ابن جرير الطبري .

والثالث : أن اللفظ إذا ورد ، وكان يحتمل معنيين ، وكان المراد أحدهما بالإجماع لا هما معا ، ولم يكن في اللفظ تمييز المراد منهما ، كان ما صار إليه الراوي هو المراد به دون الآخر ، فلما كان الافتراق يحتمل أن يراد به الافتراق بالكلام مع بعده ، ويحتمل أن يكون المراد به الافتراق بالأبدان مع ظهوره ، وكان ابن عمر ، وأبو برزة ، وهما من رواة الخبر [ ص: 34 ] يذهبان إلى أن المراد به التفرق بالأبدان ، لأن ابن عمر كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلا ثم رجع ، وأبو برزة قال للمتبايعين حين باتا ليلة ثم غدوا عليه قال : ما أراكما تفرقتما عن رضا منكما ببيع اقتضى أن يكون هو المراد بالخبر دون المعنى الآخر . وهذه دلالة الشافعي - رضي الله عنه - .

فإن قيل : فقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فأريقوه ، واغسلوه سبعا " ثم أفتى أبو هريرة - رضي الله عنه - بالثلاث ، فلم تصيروا إلى قوله ، واستعملتم الخبر على ظاهره .

قيل : نحن لا نقبل قول الراوي في التخصيص ، ولا في النسخ ، ولا في الإسقاط ، وإنما نقبله في تفسير أحد محتمليه إذا أجمعوا على أن المراد أحدهما .

وقوله : " اغسلوه سبعا " يقتضي وجوب الغسل سبعا ، وفتوى أبي هريرة بالثلاث إسقاط لباقي السبع ، فلم يقبل ، وكما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من بدل دينه فاقتلوه " وكان يذهب إلى أن المرتدة لا تقتل .

فلم نقض بمذهبه على روايته : لأن فيه تخصيصا ، وقول الراوي لا يقبل في التخصيص .

على أن أبا علي بن أبي هريرة قال : أحمله على الأمرين معا ، فأحمله على التفرق بالكلام ، وعلى التفرق بالأبدان ، فأجعل لهما في الحالين الخيار بالخبر . وهذا صحيح لولا أن الإجماع منعقد على أن المراد به أحدهما .

فأما الانفصال عن قولهم : إن معهود الافتراق إنما هو بالكلام دون الأبدان فمن وجهين :

أحدهما : أن هذا تأويل مستحدث يدفعه إجماع من سلف : لأن كل من تقدم من السلف حمله على التفرق بالأبدان ، حتى أن مالكا روى الخبر ، فقيل له : فلم خالفته ؟ قال : وجدت عمل بلدنا بخلافه . وروي لأبي حنيفة فقال : أرأيت لو كانا في سفينة فحصل التسليم منهما ، إن المراد به التفرق بالأبدان ، ولم يتنازعا في تأويله ، وإنما ذكرا شبهة واهية في ترك العمل به .

والثاني : أنه لو يجتمع السلف على أن المراد به التفرق بالأبدان لكان هو حقيقة التفرق في اللسان ، والشرع ، وإن كان ربما استعمل في التفرق بالكلام استعارة ومجازا ، وقد حكى الرياشي ذلك عن الأصمعي وشاهد ذلك أظهر من أن يذكر .

[ ص: 35 ] على أن هذا وإن ساغ في حديث مالك عن نافع عن ابن عمر على وهن وضعف ، فليس يسوغ في حديث غيره : لأن النص يدفعه من قوله : أو يقول لصاحبه : اختر ، فإن ما بعد ذلك يخالف ما قبله .

وأما الانفصال عن قولهم : إن حمله على الخيار حين التساوم حقيقة ، وبعد العقد مجاز : فمن وجهين :

أحدهما : أن حمله عليها وقت التساوم مجاز : وبعد العقد حقيقة لغة وشرعا : فأما اللغة : فلأن البيع مشتق من فعل ، والأسماء المشتقة من الأفعال لا تنطلق على مسمياتها إلا بعد وجود الأفعال ، كالضارب والقاتل : لا يتناول المسمى به إلا بعد وجود الضرب والقتل ، كذلك البائع لا ينطلق عليه اسم البيع إلا بعد وجود البيع منه ، والبيع إنما يوجد بعد العقد ، فأما حين التساوم فلا .

فأما الشرع ، فلأنه لو قال لعبده : إذا بعتك فأنت حر لم يعتق عليه بالمساومة ، فإذا تم العقد عتق عليه ، فلذلك قال مالك وأبو حنيفة : إذا باعه بيعا لا خيار فيه ، لم يعتق عليه : لأنه يصير بائعا بعد العقد ، وقد زال ملكه بالعقد ، وانقطع خياره ، فلم يعتق عليه من بعد .

والثاني : أن تسميتنا له بائعا بعد انقضاء البيع ، إن كان مجازا من حيث يقال : كانا متبايعين ، فالحمل عليه وقت التساوم مجاز أيضا حتى يوجد القبول ، وإلا فيقال : سيكونان متبايعين ، وإذا كان ذلك مجازا فيهما جميعا ، كان ما ذكرنا أولى من وجهين :

أحدهما : أن الاسم وإن انطلق عليهما بعد العقد مجازا ، فقد استقر بوجود البيع ، وهو قبل العقد غير مستقر ، لجواز أن لا يتم البيع .

والثاني : أن اسم البائع والمشتري من الأسماء المشتركة ، كالوالد والولد ، فلا يوجد المشتري إلا في مقابلة البائع ، ولا يوجد البائع إلا في مقابلة المشتري ، فلو كان البائع بعد البذل وقبل القبول يسمى بائعا ، لجاز أن يكون الطالب قبل القبول يسمى مشتريا ، فلما لم يسم الطالب مشتريا إلا بعد القبول ، لم يسم الباذل بائعا إلا بعد القبول .

على أن هذا التأويل إنما يسوغ مع وهاية في قوله : " المتبايعان " فأما في قوله " البيعان " فلا يسوغ فيه . فنستعمل الروايتين ، ونحمله على اختلاف معنيين ، فيكون أولى من حمله على أحدهما .

فبطل هذا التأويل بما ذكرنا من الدليل والانفصال ، واستقر ما ذكرنا من الوجوه في أدلة الأخبار .

فأما المعنى النظري فهو أنه خيار ورد به الشرع ، فوجب أن يعتبر حكمه بعد العقد ، أصله خيار الثلاث .

[ ص: 36 ] ولأنه عقد معاوضة محضة ، فوجب أن يكون للتفرق تأثير فيه ، كالصرف والسلم .

ولأن الخيار ضربان : ضرب يتعلق بالصفات ، وضرب يتعلق بالزمان .

ثم كان الخيار المتعلق بالصفات ينقسم قسمين : قسم وجب بالشرط وقسم وجب بالشرع .

فالقسم الواجب بالشرط : أن يبتاع عبدا على أنه كاتب أو صانع ، فيجده بخلاف ذلك ، فيجب له الخيار لعدم الفضيلة المستحقة بالشرط .

والواجب بالشرع : هو خيار العيب لنقص وجده عن حال السلامة ، فيجب له الخيار بالشرع ، فاقتضى أن يكون الخيار المتعلق بالزمان ينقسم قسمين :

قسم وجب بالشرط : وهو خيار الثلاث .

وقسم وجب بالشرع : وهو خيار المجلس .

وتحريره قياسا : أنه أحد جنسي الخيار ، فوجب أن يتنوع نوعين : شرطا وشرعا : قياسا على خيار الصفات : ولأنه عقد يقصد به تمليك المال ، فلم يلزم بالبذل والقبول كالهبة . ولأن عقد البيع بذل وقبول ، فلما ثبت الخيار بعد البذل ، وجب أن يثبت بعد القبول .

وتحريره قياسا : أنه قول أحد المتبايعين ، فوجب ثبوت الخيار بعده كالبذل .

فأما الجواب عن قوله سبحانه وتعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم فهو أن المراد به الإشهاد بعد الافتراق في الحال التي يلزم فيها العقد . ولا يمنع أن يكون ذلك إشهادا على العقد ووثيقة فيه [ كما أن الإشهاد في خيار الثلاث ، يكون بعد تقضي الثلاث ، ولا يمنع أن يكون ذلك إشهادا على العقد ووثيقة فيه ] .

وأما الجواب عن حديث عمرو بن شعيب ، وقوله " ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقبله " فهو أن لهذا اللفظ ظاهرين :

أحدهما : حجة عليهم .

والثاني : حجة لهم .

فقوله " ولا يحل له أن يفارقه " حجة عليهم : لأنه يدل على أن البيع لم يقع لازما ، وأن فيه خيارا يسقط بالتفرق .

وقوله " خشية أن يستقبله " حجة لهم ، لأنه يدل على أن الخيار لا يستحق إلا بالإقالة .

فلم يكن بد من تغليب أحد الظاهرين لتعارضهما ، فكان تغليب الظاهر في إثبات الخيار أحق لأمرين :

[ ص: 37 ] أحدهما : أن أول الخبر يقتضيه ، وهو قوله " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار " .

والثاني : أن الإقالة لا تختص بمجلس التبايع وتبطل بالتفرق : لجوازها بعد الافتراق كجوازها قبله .

وإنما الخيار يختص بالمجلس ويبطل بالتفرق ، فصح أنه المراد .

وأما الجواب عن ما روي عن عمر " البيع صفقة أو خيار " فهو أنه مرسل : لأنه يروى عن رجل من بني كنانة ، ولو صح لاحتمل أمرين :

أحدهما : أن البيع عن صفقة وخيار : لأنه قسم البيع إلى قسمين :

أحدهما : صفقة ، والثاني : خيار .

والخيار بمجرده لا يكون بيعا إلا مع الصفقة ، فثبت أن معناه عن صفقة وخيار .

والثاني : أن معناه أن البيع على ضربين :

ضرب : فيه خيار الثلاث .

وضرب : ليس فيه خيار الثلاث .

يوضح ذلك ويؤيده ما روى مطرف عن الشعبي أن عمر بن الخطاب قال : المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا .

وأما الجواب عن قياسهم على النكاح :

فهو أن المعنى في النكاح أنه عقد تبتغى به الوصلة دون المعاوضة ، فلم يثبت فيه الخيار الموضوع : لارتياد أوفر الأعواض ، ولهذا المعنى لم تكن الرؤية شرطا في صحته ، وخالف سائر عقود المعاوضات من البيوع وغيرها ، ألا ترى أن خيار الثلاث لا يصح فيه وإن صح في غيره .

وأما الجواب عن قياسهم على الكتابة : فهو أن الخيار موضوع في العقد ، لارتياد الحظ فيه ، وعقد الكتابة لم يثبت فيه الخيار من جهة السيد : لأنه قصد به إرفاق عبده ، لا طلب الحظ لنفسه : إذ معلوم أنه لا حظ له في بيع ملكه بملكه ، فسقط خياره .

ولأنه ليس يستدرك به ما خفي عنه ، وأما العبد فخياره ممدود ، وليس كذلك البيع .

وأما الجواب عن قياسهم على الخيار المجهول : فهو أن خيار المجلس من موجبات العقد ، والخيار المجهول من موجبات الشرط .

[ ص: 38 ] وفرق في الأصول بين ما ثبت بالعقد . فيصح فيه الجهالة ، وما ثبت بالشرط ، فلا يصح فيه الجهالة ، ألا ترى أن خيار العيب لما ثبت بالعقد جاز أن يكون مجهولا ، وخيار المدة لما ثبت بالشرط لم يجز أن يكون مجهولا ، وكذا القبض إذا استحق بإطلاق العقد جاز أن يكون مجهول الوقت وإذا كان مستحقا بالشرط لم يجز أن يكون مجهول الوقت .

وأما الجواب عن قولهم : إن الافتراق يؤثر في فسخ البيع لا في لزومه كالصرف قبل القبض :

فهو أن هذه دعوى غير مسلمة ، لأن الافتراق في الصرف مؤثر في لزومه كالبيع ، وليس يقع الفسخ في الصرف بالافتراق ، وإنما يقع بعدم القبض قبل الافتراق ، فإذا تقابضا ، صح ، ولم يلزم إلا بالافتراق .

وأما الجواب عن قولهم : لما لزم البيع بتراضيهما بعد العقد ، فلأن يكون لازما بتراضيهما حين العقد أولى :

فهو أن الرضا بالبيع بعد العقد يتنوع نوعين :

نوع يكون بالصمت ، ونوع يكون بالنطق : فأما الرضا بالصمت بعد العقد فلا يلزم به البيع ، فكذا الرضا بالصمت حين العقد لا يلزم به البيع . وأما الرضا بالنطق بعد البيع ، فهو أن يقول : قد اخترت إمضاء البيع ، فهذا يلزم به البيع .

ومثله بالنطق في حال البيع أن يشترط في العقد سقوط خيار المجلس ، فهذا قد اختلف أصحابنا فيه هل يلزم به البيع ويصح معه العقد أم لا ؟ على ثلاثة أوجه :

أحدها : يصح معه العقد : لأن غرر الخيار يرتفع به ، ويلزم به البيع : لأنه موجب شرطه ، ولا يثبت في البيع خيار المجلس .

وقائل هذا الوجه من أصحابنا تأوله من كلام الشافعي في كتاب الأيمان والنذور .

فعلى هذا قد استوى حكم هذا الرضا في لزوم البيع بعد العقد وقبله .

والوجه الثاني : يصح معه العقد ، لكن لا يلزم به البيع ، ولا يسقط معه خيار المجلس ، وإن كان مشروطا : لأنه من موجب العقد فلم يسقط بالشرط ، كالولاء في العتق والرجعة في الطلاق .

فعلى هذا يكون هذا النوع من الرضا يلزم به البيع إذا كان بعد العقد ، ولا يلزم به البيع إذا كان مع العقد .

والفرق بينهما أنه بعد العقد يتضمن إبطال خيار ثابت ، فصح إبطاله بعد ثبوته . وحين العقد يتضمن إبطال خيار غير ثابت ، فلم يصح إبطاله قبل ثبوته ، كاستحقاق الشفعة لما بطل بعد البيع للرضا به بعد ثبوته ، لم يبطل حال البيع مع الرضا به ، لعدم ثبوته .

[ ص: 39 ] والوجه الثالث : أن البيع باطل بهذا الشرط ، لأنه مناف لموجبه ، إذ موجب العقد ثبوت الخيار به ، والشرط إذا نافى موجب العقد أبطله ، وهو منصوص الشافعي في القديم ، والبويطي والأم .

فعلى هذا يكون هذا النوع من الرضا يلزم به البيع بعد العقد ، ويبطل به البيع إن كان مع العقد والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية