الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ويحتمل قول عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء " يعطي بيد ويأخذ بأخرى فيكون الأخذ مع الإعطاء ويحتمل أن لا يتفرق المتبايعان من مكانهما حتى يتقابضا ، فلما قال ذلك عمر لمالك بن أوس لا تفارقه حتى تعطيه ورقه أو ترد إليه ذهبه وهو راوي الحديث دل على أن مخرج " هاء وهاء " تقابضهما قبل أن يتفرقا " .

قال الماوردي : وهذا كما قال . كل شيئين ثبت فيهما الربا بعلة واحدة لم يصح دخول الأجل في العقد عليهما ، ولا الافتراق قبل تقابضهما ، سواء كانا من جنس واحد كالبر بالبر ، أو من جنسين كالشعير بالبر ، حتى يتقابضا قبل الافتراق في الصرف وغيره . وقال أبو حنيفة في الذهب والورق كقولنا لا يصح فيهما العقد إلا بالقبض قبل الافتراق ، ولا يثبت فيهما الأجل ولا خيار الشرط .

وأجاز فيما سوى الذهب والورق تأخير القبض ، وخيار الشرط ، وإن لم يدخل فيه الأجل . استدلالا بأنه عقد لم يتضمن صرفا فلم يكن التقابض فيه قبل الافتراق شرطا كالثياب بالثياب .

[ ص: 78 ] قال : ولأن القبض يراد لتعيين ما تضمنه العقد ، فلما كان الذهب والورق لا يتعين بالعقد لزم فيه تعجيل القبض : ليصير المعقود عليه معينا ، ولما كان ما سوى الذهب والورق من البر والشعير وغيرهما يتعين بالعقد لم يلزم فيه تعجيل القبض : لأن المعقود عليه قد صار معينا .

والدلالة عليه : حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، ولا البر بالبر ، ولا الشعير بالشعير ، ولا التمر بالتمر ، ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء ، عينا بعين ، يدا بيد ، ولكن بيعوا الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، والتمر بالملح ، والملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم " . فشرط في بيع ذلك كله تعجيل القبض بقوله : " إلا يدا بيد " .

فإن قيل : فقوله يدا بيد نفيا لدخول الأجل فيه وأن يكون العقد عليه بالنقد ، وليس بشرط في تعجيل القبض . قيل يبطل هذا التأويل بثلاثة أشياء :

أحدها : أنه جمع في الخبر بين الذهب والورق ، وبين البر والشعير ، فلما كان قوله " إلا يدا بيد " محمولا في الذهب والورق على تعجيل القبض وجب أن يكون في البر والشعير مثله : لأنها جملة معطوف عليها حكم .

والثاني : أن نفي الأجل مستفاد من هذا الحديث بقوله : إلا عينا بعين : لأن المؤجل لا يكون عينا إذ العين لا يدخل فيها الأجل ، وإنما يكون عينا بدين . فوجب أن يكون قوله إلا يدا بيد محمولا على غير نفي الأجل ، وهو تعجيل القبض ليكون الخبر مقيدا لحكمين متغايرين ، واختلاف اللفظين محمولا على اختلاف معنيين .

والثالث : أن قوله : " إلا يدا بيد " مستعمل في اللغة على تعجيل القبض لأجل أن القبض يكون باليد ، وليس بمستعمل في نفي الأجل إلا على وجه المجاز ، فكان حمل الكلمة على حقيقتها في اللغة أولى من حملها على المجاز . ومما يدل على أصل هذه المسألة ونفي هذا التأويل أيضا : ما استدل به الشافعي من حديث عمر رواه مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ، والورق بالورق ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء " .

قال الشافعي فاحتمل قوله : " إلا هاء وهاء " معنيين :

أحدهما : أن يعطي بيد ويأخذ بأخرى فيكون الأخذ مع الإعطاء ، واحتمل ألا يتفرق المتبايعان عن مكانهما حتى يتقابضا ، فلما روي أن مالك بن أوس بن الحدثان صارف طلحة بن عبيد الله بمائة دينار باعها عليه بدراهم فقال طلحة لمالك : حتى يأتي خازني من الغابة وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسمع ، فقال عمر لمالك : لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ورقك أو يرد عليك ذهبك . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء " .

[ ص: 79 ] دل على أن المراد بهذا الحديث من المعنيين المحتملين التقابض قبل الافتراق لأمرين :

أحدهما : أن راوي الحديث إذا فسره على أحد معنيين كان محمولا عليه .

والثاني : أن في تكليف الناس الإعطاء بيد والأخذ بأخرى مشقة غالبة ، والشريعة موضوعة على التوسعة والسماحة فامتنع أن يكون هذا مرادا .

ثم الدليل على ذلك من طريق المعنى : أنه عقد معاوضة يمنع من ثبوت الأجل ، فوجب أن يمنع من التفرق قبل القبض كالصرف : ولأن كل ما كان شرطا معتبرا في عقد الصرف كان شرطا معتبرا فيما دخله الربا من غير الصرف كالأجل .

وأما الجواب عن قياسهم على بيع الثياب بالثياب فمنتقض بالسلم : حيث لزم فيه القبض ، ثم المعنى في بيع الثياب بالثياب عدم الربا فيها فجاز تأخير قبضهما ، وما ثبت الربا فيه لم يجز تأخير قبضه كالصرف .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن القبض إنما يراد لتعيين ما تضمنه العقد ، والبر والشعير مما يتعين بالعقد فلم يفتقر إلى القبض ، فهو أن هذا يفسد ببيع الحلي بالحلي يلزم فيه تعجيل القبض وإن كان متعينا بالعقد . ثم لو سلم من هذا الكسر لكان عكس هذا الاعتبار أشبه بالأصول : لأن السلم يتعين فيه الثمن ولا يتعين فيه المثمن ، ثم يلزم فيه تعجيل قبض الثمن وإن كان معينا ، ولا يلزم فيه تعجيل قبض الثمن وإن لم يكن معينا ، فكان اعتبار هذا يوجب تعجيل القبض فيما كان معينا ، ولا يوجبه فيما ليس بمعين ، ولما انعكس هذا الاعتبار عليه بطل أن يكون له دليل فيه .

فصل : فإذا ثبت أن القبض قبل الافتراق شرط في صحة العقود التي لا تدخلها الآجال ويلحقها الربا من صرف وغيره ، وأن حكم ما فيه الربا وإن لم يكن صرفا ، كحكم ما فيه الربا إذا كان صرفا ، فتصارف الرجلان مائة دينار بألف درهم وتقابضا الدراهم ولم يتقابضا الدنانير أو تقابضا الدنانير ولم يتقابضا الدراهم حتى تفارقا ، فلا صرف بينهما ولزم رد المقبوض منهما سواء علما فساد العقد بتأخير القبض أو جهلا .

فلو لم يتفرقا ولكن خير أحدهما صاحبه فاختار الإمضاء القائم مقام الافتراق قبل أن يتقابضا كان هذا التخير باطلا ، ولم يبطل العقد : لأن اختيار الإمضاء إنما يكون بعد تقضي علق العقد ، وبقاء القبض يمنع من نقض علقه ، فمنع من اختيار إمضائه ، فإن تقابضا بعد ذلك وقبل الافتراق صح العقد واستقر وكانا بالخيار ما لم يتفرقا أو يتخايرا . فلو وكل أحدهما في القبض له والإقباض عنه ، فإن قبض الوكيل وأقبض قبل افتراق موكله والعاقد الآخر صح العقد ، وإن أقبض بعد افتراقهما لم يجز وكان العقد باطلا : لافتراق المتعاقدين قبل القبض ، [ ص: 80 ] فلو تقابض المتصارفان ما تصارفا عليه في مداد قبل الافتراق جاز ، ولم يلزم دفع جميعه مرة واحدة ، وإنما يلزم قبض جميعه قبل الافتراق وسواء طالت مدة اجتماعهما أو قصرت .

فلو اختلفا بعد الافتراق فقال أحدهما تفارقنا عن قبض ، وقال الآخر بخلافه ، كان القول قول من أنكر القبض ويكون الصرف باطلا .

فإن قيل : أليس لو اختلفا بعد الافتراق في الإمضاء والفسخ ، فقال أحدهما افترقنا عن فسخ ، وقال الآخر عن إمضاء ، كان القول في أحد الوجهين قول من ادعى الإمضاء والبيع لازم ، فهلا كان اختلافهما في القبض مثله . قيل : الفرق بينهما أن مدعي الفسخ ينافي بدعواه مقتضى العقد : لأن مقتضاه اللزوم والصحة إلا أن يتفقا على الفسخ فكان الظاهر موافقا لقول من ادعى الإمضاء دون الفسخ ، وليس كذلك من ادعى القبض : لأن الأصل عدم القبض ، على أن أصح الوجهين هناك أن القول قول مدعي الفسخ إذا تصارفا مائة دينار بألف درهم فتقابضا من المائة خمسين دينارا ، ثم افترقا وقد بقي خمسون دينارا كان الصرف في الخمسين الباقية باطلا .

ومذهب الشافعي جوازه في الخمسين المقبوضة قولا واحدا لسلامة العقد وحدوث الفساد فيما بعد ، وكان أبو إسحاق المروزي يخرج الصرف في الخمسين المقبوضة على قولين من تفريق الصفقة . وليس هذا التخريج صحيحا : لأن القولين في العقد الواحد إذا جمع جائزا وغير جائز في حال العقد .

وإذا صح الصرف في الخمسين المقبوضة ، فالمذهب أنها لازمة بنصف الثمن وهو خمسمائة درهم وليس للبائع ولا للمشتري خيار في الفسخ لأجل تفريق الصفقة : لأن افتراقهما عن قبض البعض رضا منهما بإمضاء الصرف فيه وفسخه في باقيه . وكان بعض أصحابنا يخرج قولا ثانيا أنها مقبوضة بجميع الثمن . وكلا التخريجين فاسد والتعليل في فسادهما واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية