الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وكل ما خرج من المأكول والمشروب والذهب والفضة فلا بأس ببيع بعضه ببعض تفاضلا إلى أجل ، وإن كان من صنف واحد " .

قال الماوردي : قد تقرر بما تمهد من علتي الربا أن ما عدا المأكول والمشروب والذهب والفضة لا ربا فيه كالصفر والنحاس والثياب والحيوان ، فلا بأس أن يباع الجنس منه بغيره أو بمثله عاجلا وآجلا ، ومتفاضلا ، فيجوز أن يبيع ثوبا بثوبين ، وعبدا بعبدين ، وبعيرا ببعيرين نقدا ونساء .

وقال أبو حنيفة : الجنس يمنع من النساء متفاضلا ومتماثلا ، فلا يجوز بيع الثياب بالثياب نساء ، ولا بيع الحيوان بالحيوان نساء : استدلالا برواية قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة .

وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحيوان واحد باثنين لا بأس به يدا بيد ولا خير فيه إنساء " .

ولأنه بيع جنس فلم يجز دخول النساء فيه كالبر : ولأن الجنس أحد صفتي علة الربا : لأن علة الربا على قول الشافعي مطعوم جنس : وعلى قول أبي حنيفة مكيل جنس ، وإذا كان الجنس أحد صفتي علة الربا لم يجز دخول النساء فيه كالطعم أو الكيل .

وتحريره قياسا أن ما كان وصفا في علة الربا كان مانعا من دخول النساء كالكيل .

والدلالة على خطأ هذا القول ما روي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشا ففرت الإبل فأمره أن يأخذ من قلاص الصدقة . فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة . رواه أبو داود في سننه .

وروى الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال : جاء عبد فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة ، ولا يشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عبد ، فجاء سيده يريده ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعنيه ، فاشتراه بعبدين [ ص: 101 ] أسودين ، ثم لم يبايع أحدا بعد حتى يسأله أعبد هو ؟ رواه الشافعي في الأم . وقد روي جواز ذلك عن علي وابن عمر - رضي الله عنهما - .

فروي عن علي - رضي الله عنه - أنه باع جملا له يقال له العصيفير بعشرين جملا إلى أجل .

وروي عن ابن عمر أنه باع بعيرا بأربعة أبعرة مضمونة بالربذة . وليس لهما في الصحابة مخالف فكان إجماعا .

ولأن كل عقد صح اشتراط الخيار فيه ، صح دخول الأجل فيه ، كالجنسين من حيوان وثياب .

ولأن كل جنس جاز دخول التفاضل فيه جاز دخول الأجل فيه كالثياب المروية بالهروية .

فإن قيل : " الهروي والمروي " جنسان فلذلك جاز دخول الأجل فيهما قيل : جنسهما واحد . ألا ترى أنه لو باعه ثوبا على أنه هروي فبان أنه مروي ، كان البيع جائزا وله الخيار ، ولو كان من غير جنسه لبطل البيع ، كما لو باعه ثوبا على أنه قطن فبان أنه كتان ، كان البيع باطلا لأنهما جنسان .

ولأن الربا قد يثبت في الجنس من وجهين : التفاضل ، والأجل .

فلما كان التفاضل في جنس ما لا ربا فيه جائزا ، وجب أن يكون الأجل في جنس ما لا ربا فيه جائزا .

وتحرير ذلك قياسا : أنه أحد نوعي الربا فوجب ألا يحرم فيما ليس فيه ربا كالتفاضل .

وأما الجواب عن خبري سمرة ، وجابر ، فهو أن يحمل النهي على دخول الأجل في كلا العوضين ، وذلك عندنا غير جائز .

وأما قياسهم على البر بالبر فالمعنى تحريم التفاضل فيه ، فذلك حرم الأجل ، وليس كذلك في مسألتنا .

وأما استدلالهم بأنه أحد صفتي الربا كالكيل ، فالمعنى في الكيل أنه إذا علق به تحريم الأجل ، اختص ذلك بما فيه الربا ، وإذا علق بالجنس عم ما فيه الربا وما لا ربا فيه ، ولا يجوز أن يسوى بين ما فيه الربا ، وبين ما لا ربا فيه في أحد نوعي الربا . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية