الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " ولا خير في زبد غنم بلبن غنم : لأن الزبد شيء من اللبن ولا خير في سمن غنم بزبد غنم ، وإذا أخرج منه الزبد فلا بأس أن يباع بزبد وسمن " .

قال الماوردي : وهذا صحيح .

وأصل هذا الفصل أن كل شيء كان متخذا من اللبن لم يجز بيعه بمثل ذلك من اللبن .

فلا يجوز بيع اللبن الحليب بالزبد ، ولا بالسمن ، ولا بالجبن ، ولا بالمصل ، ولا بالأقط ، ولا بالمخيض : لأن في اللبن الحليب زبدا وسمنا وجبنا ومصلا وأقطا ومخيضا . والتماثل فيهما معدوم .

قال الشافعي في تعليل المنع من بيع الزبد باللبن : لأن الزبد شيء من اللبن . واختلف أصحابنا في بيان هذا التعليل .

فكان أبو إسحاق المروزي يقول : معناه أن في الزبد شيئا من اللبن يبقى فلا يخرجه إلا النار . فيؤدي ذلك إلى بيع اللبن باللبن متفاضلا .

وقال جمهور أصحابنا : إن معناه أن في اللبن زبدا ، فيؤدي إلى بيع الزبد بالزبد متفاضلا . وهذا أصح المعنيين .

لأن ما في الزبد من اللبن يسير غير مقصود .

وفائدة هذا الخلاف تؤثر في بيع الزبد باللبن المخيض .

فعلى قول أبي إسحاق لا يجوز بيع الزبد باللبن المخيض : لأن في الزبد لبنا .

وعلى قول الجمهور يجوز ، وهو نص الشافعي : لأنه ليس في المخيض زبد . فأما بيع المخيض بالسمن فيجوز على كلا المذهبين : لأنه ليس في السمن لبن ولا في اللبن سمن .

وأما بيع المخيض بالجبن أو المصل أو الأقط ، فلا يجوز على كلا المذهبين : لأن في كل واحد منهما لبنا .

ولا يجوز بيع الجبن بالمصل ، ولا بيع الأقط بالجبن : لأن جميعه من لبن يعدم فيه التماثل .

[ ص: 122 ] وهكذا ، لا يجوز بيع المخيض باللبن الحليب : لأن اللبن الحليب فيه زبد ، والمخيض لبن فيه ماء ، فعدم التماثل بينهما ، لكن يجوز بيع اللبن الحليب باللبن الرائب والحامض إذا لم يكن زبدهما ممخوضا : لأنه بيع لبن فيه زبد بلبن فيه زبد فصار كبيع الحليب بالحليب .

وأما بيع الزبد بالسمن فلا يجوز : لما في الزبد من بقية اللبن التي تمنع من تماثله بالسمن . فهذا الكلام في بيع كل نوع من اللبن بنوع غيره .

فصل : فأما بيع النوع الواحد بمثله :

أما بيع اللبن الحليب باللبن الحليب فيجوز وقد مضى الكلام فيه .

وأما بيع اللبن المخيض باللبن المخيض فلا يجوز ، لأن في المخيض ماء قد مخض به لإخراج الزبد منه يمنع من التماثل في اللبن بغير ماء ، فيجوز بيع لبنه بمثله ، إلا أن يكون طريق إخراج الزبد بغير ماء فيجوز بيع لبنه بمثله .

فصل : وأما بيع الزبد بالزبد فقد اختلف أصحابنا في جوازه على وجهين :

أحدهما : لا يجوز : لأن في الزبد لبنا باقيا يمنع من التماثل .

والوجه الثاني : وهو أصح عندي ، وبه قال ابن أبي هريرة ، أنه يجوز : لأن ما في الزبد من بقايا اللبن يسير غير مقصود فلم يمنع من بيع بعضه ببعض ، كالنوى في التمر ، وكما يجوز بيع الحليب بالحليب ، وإن كان فيهما زبد : لأن غير الزبد هو المقصود .

فصل : فأما بيع السمن بالسمن فيجوز وإن صفي بالنار : لأن دخول النار فيه لتمييزه وتصفيته .

فإن كان ذائبا لم يبع إلا كيلا ، وإن كان جامدا فعلى وجهين :

أحدهما : لا يجوز بيع بعضه ببعض : لأن أصله الكيل .

والثاني : يجوز وزنا : لأن الوزن أحصر والكيل فيه متعذر . والله أعلم .

فصل : فأما بيع الجبن بالجبن فلا يجوز إن كان رطبا أو نديا ، فإن كان يابسا فعلى قولين :

أحدهما : رواه حرملة . يجوز بيعه إذا تناهى بنفسه وزنا لقيمة المماثلة فيه ، وأنه غاية اللبن التي ينتهي إليها ، وهو قول أبي إسحاق المروزي .

والقول الثاني : رواه الربيع وهو الصحيح ، أن بيع بعضه ببعض لا يجوز ، واختلف أصحابنا في العلة المانعة من جوازه .

فقال أبو العباس بن سريج : لأن أصله الكيل وهو فيه متعذر .

وقال غيره : لأن فيه إنفحة تعمل بها تمنع من التماثل فيه فعلى هذا الودق الجبن حتى [ ص: 123 ] عمل فتوتا ، وصار ناعما جاز بيع بعضه ببعض على قول أبي العباس لإمكان كيله ، ولم يجز على قول غيره لبقاء الإنفحة فيه .

فصل : وعلى ما ذكرنا ، لا يجوز بيع الزيت بالزيتون : لأن فيه ما به والتماثل معدوم ، وكذا لا يجوز بيع الشيرج بالسمسم ، ولا بيع دهن الجوز بالجوز ، ولا دهن اللوز باللوز .

وقال أبو حنيفة : يجوز بيع الزيت بالزيتون إذا كان الزيت أكثر مما في الزيتون من الزيت ، وإن كان مثله أو أقل لم يجز : ليكون فاضل الزيت في مقابلة عصير الزيتون .

وكذا يقول في بيع جميع الأدهان بأصولها ، وفيما ذكرنا دليل عليه . وأصل هذه المسألة إذا باع مد تمر ودرهما بمدي تمر وقد مضى الكلام فيه . فإن قيل : لم جوزتم بيع السمسم بالسمسم وربما كان دهن أحدهما أكثر من الآخر .

قلنا : دهن السمسم قبل استخراجه تبع لأصله فلا اعتبار بزيادته ونقصه ، كما أن زبد اللبن قبل استخراجه تبع لأصله ، ولا يمنع من بيع بعضه ببعض مع جواز أن يكون زبد أحدهما أكثر . فأما إذا استخرج دهن السمسم وبقي كسبا وحده فقد حكي عن أبي علي بن أبي هريرة جواز بيع بعضه ببعض ، فجوز بيع الكسب بالكسب وزنا ، وهذا غير صحيح ، بل بيع الكسب بالكسب لا يجوز لأمور :

منها : أن أصله الكيل ، والكيل فيه غير ممكن والوزن فيه غير جائز .

ومنها : أن الكسب يختلف عصره ، فربما كان ما بقي من دهن أحدهما أكثر من الآخر ، فيؤدي إلى التفاضل فيه .

ومنها : أن في الكسب ماء وملحا لا يمكن استخراج الدهن إلا بهما ، وذلك يمنع من المماثلة .

فأما بيع طحين السمسم بطحين السمسم قبل استخراج الدهن منهما ، فلا يجوز باتفاق أبي علي بن أبي هريرة : لأنه ربما كان طحن أحدهما أنعم من الآخر كما قيل في الدقيق ، وهذا حجة عليه في بيع الكسب بالكسب : إذ أصله الكيل وطحنه مختلف .

التالي السابق


الخدمات العلمية