الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وكل ما لم يجز التفاضل فيه فالقسم فيه كالبيع " .

قال الماوردي : اختلف قول الشافعي في القسمة على قولين :

أحدهما : أنها بيع .

والثاني : أنها إفراز حق وتمييز نصيب .

[ ص: 127 ] وإنما اختلف قوله فيها لاختلاف قوله في خرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمار المدينة وأعناب الطائف ، فهل كان لمعرفة قدر الزكاة أو لإفراز حقوق أهل السهمان ؟ فإذا قيل خرصها لمعرفة قدر الزكاة فيها ، وإنما كان إفراز الحق تبعا لمعرفتها .

فعلى هذا القول لا تجوز قسمة الثمار خرصا وتكون القسمة بيعا .

وإذا قيل إنما خرصها لإفراز حق أهل السهمان منها ، جاز قسمة الثمار خرصا ، وكانت القسمة إفراز حق وتمييز نصيب .

فإذا قيل إن القسمة بيع ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأشهر القولين فوجهه :

أن الشريكين في الدار كل جزء منها بينهما نصفان . فإذا اقتسما فأخذ أحدهما مقدم الدار ، وأخذ الآخر مؤخرها ، صار صاحب المقدم بائعا لحصته من مؤخر الدار بحصة شريكه من مقدمها : لأنه نقل ملك بملك وهذا هو البيع المحض .

وإذا قيل إن القسمة إفراز حق وتمييز نصيب فوجهه أربعة أشياء : أحدها : أن القسمة لما خالفت البيع في الاسم وجب أن تخالف البيع في الحكم : لأن اختلاف الأسامي دليل على اختلاف المعاني .

والثاني : أن القسمة لما دخلها الجبر والإكراه ، ولم يصح البيع مع الجبر والإكراه ، دل على اختلافهما وعدم التسوية بين حكميهما .

والثالث : أنه لما صح دخول القرعة في تعيين الملك بالقسمة ، ولم يصح دخول القرعة في تعيين الملك بالبيع حتى يكون معينا بالعقد ، دل على أن القسمة مخالفة للبيع .

والرابع : أنه لما كان من أحكام البيع استحقاق الشفعة وضمان الدرك ، وانتفى عن القسمة استحقاق الشفعة وضمان الدرك ، دل على تنافي حكميهما وعدم الجمع بينهما .

فصل : فإذا تقرر توجيه القولين ، فإذا قيل إن القسمة بيع ، فلا يخلو حال الجنس الذي يريد الشريكان قسمته من أحد أمرين :

إما أن يكون مما فيه الربا أم لا .

فإن لم يكن فيه الربا كالثياب والحيوان والصفر والنحاس ، جاز لهما أن يقتسماه ، كيف شاءا ، وزنا وعددا وجزافا ومتفاضلا : لأن التفاضل في بيع ما لا ربا فيه جائز ، ويجوز اشتراط الخيار فيه .

وإن كان مما فيه الربا فعلى ضربين :

أحدهما : أن يكون جنسا يجوز بيع بعضه ببعض كالحنطة . فلا يجوز أن يقتسماه إلا كيلا متساويا ويتقابضا قبل التفرق ، ولا يصح منهما اشتراط الخيار فيه ، ولا يثبت لهما خيار المجلس ، فتكون صحة هذه القسمة معتبرة بخمسة شروط :

[ ص: 128 ] أحدها : أن يقتسماه كيلا : لأن الحنطة الأصل فيها الكيل ، وإن اقتسماه وزنا لم يجز إلا أن يكون جنسا أصله الوزن ، فإن اقتسماه كيلا لم يجز .

وإذا كانت الصبرة بينهما نصفين أخذ هذا قفيزا وأخذ صاحب الثلث قفيزا .

وإن كانت بينهما أثلاثا أخذ صاحب الثلثين قفيزين وأخذ صاحب الثلث قفيزا .

ولا يجوز لأحدهما أن يستوفي جميع حصته من الصبرة ، ثم يكتال الآخر ما بقي لجواز أن يتلف الباقي قبل أن يكتاله الشريك الآخر .

ولأنهما قد استويا في الملك فوجب أن يستويا في القبض .

فإن اتفقا على المبتدئ منهما بأخذ القفيز الأول ، وإلا أقرع بينهما في أخذه ، ويكون استقرار ملك الأول على ما أخذه موقوفا على أن يأخذ الآخر مثله .

فلو أخذ الأول قفيزا فهلكت الصبرة قبل أن يأخذ الثاني مثله ، لم يستقر ملك الأول على القفيز ، وكان الثاني شريكا له فيه : ليملك كل واحد منهما بالقسمة مثل ما ملكه صاحبه ، فهذا أحد الشروط وفروعه .

والشرط الثاني : أن يتساويا في قبض حقوقهما من غير تفاضل ، وإذا كانت الصبرة بينهما نصفين لم يجز أن يزداد أحدهما على أخذ النصف شيئا ولا أن ينقص منه شيئا : لأنه إن ازداد أو نقص صار بائعا للطعام بالطعام متفاضلا وذلك حرام .

وكذلك لا يجوز أن يأخذ أحدهما نصف الصبرة وثوبا ، أو يأخذ الآخر نصفها ويعطي ثوبا ، لحصول التفاضل فيه .

فإن كانت الصبرة بينهما أثلاثا اقتسماها كذلك ، فأخذ صاحب الثلثين ثلثي الصبرة من غير أن يزداد شيئا أو ينقص .

فإن قيل : فهذا يوقع تفاضلا في بيع الطعام بالطعام . قيل : التساوي بينهما معتبر بقدر الحق لا بالتماثل في القدر .

فإذا أخذ كل واحد منهما قدر حقه فقد تساويا وإن كانت الحقوق متفاضلة بخلاف البيع المبتدأ .

والشرط الثالث : أن يكون كل واحد منهما أو وكيله قابضا ومقبضا : لأن له حقا وعليه حقا . فله قبض حقه وعليه إقباض حق شريكه ، فإن قبض عن نفسه من غير إقباض الشريك حقه لم يجز ، وإن أقبض شريكه حقه من غير قبض حق نفسه لم يجز : لأنها مناقلة بين متعاوضين فلزم فيها القبض والإقباض معا .

فلو أذن أحدهما لشريكه في القبض له والإقباض عنه لم يجز ، لأنه يصير قابضا من نفسه ومقبضا عنها .

[ ص: 129 ] وكذا لو أذن كل واحد لزيد في القبض له والإقباض عنه لم يجز حتى يتولى القبض والإقباض اثنان .

والشرط الرابع : أن يتقابضا قبل التفرق وقبضهما بالكيل وحده دون التحويل بخلاف البيع .

والفرق بين البيع حيث كان التحويل في قبضه معتبرا وبين القسمة حيث لم يكن التحويل في قبضها معتبرا . أن المبيع مضمون على بائعه باليد ، فاعتبر في قبضه التحويل لترتفع اليد فيسقط الضمان ، وليس في القسمة ضمان يسقط بالقبض ، وإنما هي موضوعة للإجازة ، وبالكيل دون التحويل تقع الإجازة .

فلو تقابضا بعض الصبرة ولم يتقابضا باقيها حتى افترقا صحت القسمة فيما تقابضا قولا واحدا ، إذا صار إلى كل واحد من حقه مثل ما صار إلى صاحبه ، وكانت الشركة بينهما فيما بقي من الصبرة على ما كانت عليه من الإشاعة .

والشرط الخامس : وقوع القسمة ناجزة من غير خيار يستحق فيها . لا خيار الثلاث بالشرط ، ولا خيار المجلس المستحق في البيع .

أما خيار المجلس فلأنه موضوع في البيع لاستدراك الغبن مع بقايا أحكام العقد قبل الافتراق ، وليست هذه القسمة - وإن كانت بيعا مثله : لأن المحاباة والغبن قد انتفيا عنها ، ولم يبق بعد الإجازة للقسمة حكم في الشركة فيثبت الخيار فيها . فبهذين سقط خيار المجلس .

فأما خيار الثلاث فهو أسقط : لأن خيار المجلس أثبت في العقود من خيار الثلاث ، فإذا سقط خيار المجلس فأولى أن يسقط خيار الثلاث .

فهذه خمسة شروط معتبرة في قسم هذا الضرب ، وهو ما يجوز بيع بعضه ببعض .

فأما الضرب الثاني ، وهو ما لا يجوز بيع بعضه ببعض كالرطب ، والعنب ، والبقول ، والخضر ، فلا يصح أن يقتسمه الشريكان كيلا ، ولا وزنا ، ولا جزافا ، على هذا القول : لتحريم بيع بعضه ببعض .

والوجه في ارتفاع الشركة بينهما فيه ، صنف من البيوع .

وهو أن يجعلا ذلك حصتين متميزتين ، ثم يبيع أحدهما حقه من إحدى الحصتين على شريكه بدينار ، ويبتاع منه حقه من الحصة الأخرى بدينار .

فتصير إحدى الحصتين بكمالها لأحد الشريكين وعليه دينار ، والحصة الأخرى بكمالها للشريك الآخر وعليه دينار .

ثم يتقابضان الدينار بالدينار ، فيكون هذا بيعا يجري عليه جميع أحكام البيوع المشاعة .

[ ص: 130 ] فهذا جملة الكلام في القسمة إذا قيل إنها بيع .

فصل : فأما إذا قيل إنها إفراز حق وتمييز نصيب ، جاز لهما أن يتقاسما كل جنس بينهما مما فيه الربا أو لا ربا فيه كيف شاءا كيلا ووزنا وجزافا .

فإن كان ذلك مما يختلف أجزاؤه كالثياب والحيوان ، فلا بد من اجتماعهما على القسمة حتى يكون كل واحد منهما قابضا ومقبضا .

فإذا انفرد أحدهما بأخذ حصته لم يجز ، وكان ما أخذه بينه وبين شريكه وعليه ضمان حصة شريكه منه ، وما بقي أيضا بينه وبين شريكه ، لكن لا يضمن حصة شريكه منه .

وإن كان ذلك مما يتماثل أجزاؤه ولا يختلف كالحبوب والأدهان جاز أن ينفرد أحدهما بأخذ حصته عن إذن شريكه .

والفرق بينهما : أن ما يختلف أجزاؤه يحتاج إلى اجتهاد في استيفاء الحق ، ونظر في طلب الأحظ فلم يجز أن ينفرد أحدهما بالقسمة وإن أذن له الشريك .

وليس كذلك ما كانت أجزاؤه متماثلة : لأن الحق فيه مقدر لا يفتقر إلى اجتهاد في استيفائه ولا إلى نظر في طلب الأحظ في أخذه ، فجاز أن ينفرد أحدهما بأخذ حصته عن إذن شريكه ، فإن استفضل أكثر من حقه وبان وظهر ، رجع عليه بما استفضل ، ولا يجوز على القول الأول فيما تماثلت أجزاؤه أن ينفرد أحدهما بالقسمة عن إذن شريكه ، وإن جاز على هذا القول .

والفرق بينهما : أنه على القول الأول بيع ، والبيع لا يجوز أن ينفرد به أحدهما . وهو على هذا القول إفراز حق لا يمتنع أن ينفرد به أحدهما .

فعلى هذا القول لو انفرد أحد الشريكين بأخذ حقه من غير إذن شريكه ، ففيه وجهان :

أحدهما : لا يجوز : لأن لشريكه حق الإشاعة فلم يسقط إلا بإذن .

فعلى هذا يكون ما أجازه الشريك مشاعا ، وهو ضامن لحصة شريكه منه .

والوجه الثاني : يجوز : لأنه لو استأذنه لم يكن له أن يمنعه ، فجاز إذا استوفى قدر حقه ألا يستأذنه . والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية