الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ومعقول إذا كانت الثمرة للبائع أن على المشتري تركها في شجرها إلى أن تبلغ الجداد أو القطاف أو اللقاط في الشجر " .

قال الماوردي : وهذا كما قال . إذا صارت ثمرة النخلة للبائع فلا يخلو حالها من أحد أمرين :

- إما أن تصير له بالتأبير ، أو بالشرط قبل التأبير ، فإن صارت له بالشرط والاستثناء قبل التأبير فعلى البائع قطعها في الحال ، ولا يلزم المشتري تركها على نخله إلا باختياره ، وإنما كان كذلك : لأن استثناء البائع لها إنما يصح على شرط القطع لما ذكرنا ، وهذا الشرط يوجب عليه التزام موجبه .

وإن صارت الثمرة له بالتأبير من غير شرط فللبائع تركها على نخلها وشجرها إلى أوان جذاذها ولقاطها ولا يلزم قطعها ولا للمشتري أن يمتنع من تركها .

وقال أبو حنيفة : على البائع قطعها ، ولا يلزم المشتري تركها : احتجاجا بأن المشتري يملك منفعة ما ابتاعه ، فهو يملك منفعة النخل كما يملك منفعة الدار ، فلما كان لو ابتاع دارا وجب على البائع نقل ما فيها من متاعه ليسلم المشتري منفعة داره ، كذلك لو ابتاع نخلا وجب على البائع جذاذ ما عليها من ثماره ليسلم المشتري منفعة نخله ، ثم أخذ الثمرة أولى : لأن تركها مضر ، وترك المتاع غير مضر . ولأنه لو استحق البائع ترك الثمرة لكان قد استثنى منفعة ما باعه ، كمن باع دارا واشترط سكناها ، فلما كان هذا فاسدا كان ما أدى إليه فاسدا .

ودليلنا : هو أن المبيع إذا كان مشغولا بملك البائع وجب عليه نقله على ما جرت به العادة واستقر العرف عليه ، ألا ترى لو باع داره ليلا لم يلزم الانتقال عنها في الحال حتى يصبح اعتبارا بالعادة والعرف ، ولو كانت الدار مملوءة بمتاعه لم يلزمه أن يجهد نفسه في نقله في يومه حتى ينقله في الأيام اعتبارا بالعادة والعرف ، وجب إذا باعه نخلا ألا يلزمه أخذ ثمرها في الحال حتى ينتهي إلى وقت الجذاذ ، اعتبارا بالعادة والعرف .

ولأن ما ثبت بالعادة والعرف في حكم ما ثبت بالشرط ، بدليل أن الأثمان المطلقة تحمل على غالب النقد كما لو ثبت ذلك بالشرط ، والعرف في الثمار تركها إلى وقت الجذاذ ، فلما [ ص: 170 ] كان لو شرط البائع تركها إلى وقت الجذاذ لزم ، وجب إذا كان العرف أن تترك إلى وقت الجذاذ أن تلتزم .

فأما الجواب عما ذكره من الدار فهما سواء ، والعرف فيهما معتبر ، لكن العرف في الدار أن ينقل البائع متاعه في أول أوقات الإمكان ، وفي الثمار في أول أوقات الجذاذ ، ثم يقول منفعة الدار تبطل بإقرار المتاع فيها ، ولا تبطل منفعة النخل بإقرار الثمرة عليها . وأما الجواب عن استدلاله بأنها منفعة مستثناة كالسكنى ، فهو أن الأصول قد فرقت بين استثناء المنفعة بالعقد وبين استثنائها بالشرط . ألا ترى أنه لو باع أمة ، واستثنى الاستمتاع بها لم يجز وكان العقد فاسدا ، ولو كانت مزوجة كان الاستمتاع بها مستثنى والعقد صحيح ، ثم الفرق بين السكنى والنفقة ما ذكرناه من قبل .

فإذا تقرر أن استيفاء الثمرة إلى أوان الجذاذ : فإن كانت مما تؤخذ ثمرا فإلى أول أوقات جذاذها ثمرا ، وإن كانت مما تؤخذ رطبا فإلى أول أوقات لقاطها رطبا ، وإن كانت مما تؤخذ بسرا فإلى أول قطعها بسرا ، وكذا الكلام في الكرم والشجر فنقر الكرم إلى وقت القطاف والشجر إلى وقت اللقاط .

التالي السابق


الخدمات العلمية