الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 190 ] باب لا يجوز بيع الثمر حتى يبدو صلاحه

مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا مالك عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي ، قيل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تزهي ؟ قال " حتى تحمر " وروى عنه صلى الله عليه وسلم ابن عمر " حتى يبدو صلاحها " ، وروى غيره " حتى تنجو من العاهة " ( قال ) فبهذا نأخذ . وفي قوله صلى الله عليه وسلم " إذا منع الله جل وعز الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ " دلالة على أنه إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة التي تترك حتى تبلغ غاية إبانها ، لا أنه نهى عما يقطع منها ، وذلك أن ما يقطع منها لا آفة تأتي عليه تمنعه إنما يمنع ما تترك مدة يكون في مثلها الآفة كالبلح ، وكل ما دون البسر يحل بيعه على أن يقطع مكانه " .

قال الماوردي : قد ذكرنا في الباب الماضي الحكم في بيع النخل دون الثمرة ، وفى بيع الثمرة مع النخل ، وهذا الباب مقصور على بيع الثمرة دون النخل ، ولا يخلو حال الثمرة المبيعة من أحد أمرين :

إما أن تكون بادية الصلاح ، أو غير بادية الصلاح .

فإن كانت غير بادية الصلاح . فلا يخلو حال بيعها من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تباع بشرط التبقية .

والثاني : أن تباع بشرط القطع .

الثالث : أن تباع بيعا مطلقا .

فأما القسم الأول وهو أن تباع بشرط التبقية والترك فبيعها باطل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الثمار حتى تزهي ، قيل وما تزهي ؟ قال حتى تحمر "

وروى سعيد عن جابر قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تشقح . قيل : وما تشقح ؟ قال تحمار وتصفار ، ويؤكل منها " .

[ ص: 191 ] وروى نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها " .

وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض " .

وروى حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة "

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه " فهذه خمسة أحاديث تمنع من بيع الثمار قبل بدو الصلاح ، وألفاظها - وإن كانت مختلفة - فمعانيها متفقة ، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الألفاظ المختلفة في أزمان مختلفة ، فنقل كل واحد من الرواة ما سمعه من لفظه ، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال أحد هذه الألفاظ فنقل كل واحد من الرواة المعنى ، وعبر عنه بغير ذلك اللفظ ، فكان اختلاف الألفاظ من جهة الرواة ، ويجوز عندنا مثل هذا أن يعبر الراوي عن المعنى بغير اللفظ المسموع إذا كان المعنى جليا .

وأما القسم الثاني : وهو أن تباع بشرط القطع ، فالبيع جائز : لأنه لا منع من بيعها لأن تنجو من العاهة ، وأن لا تعطب ، فيأخذ الرجل ملك أخيه . وكان اشتراط قطعها يؤمن معه عطبها وحدوث العاهة بها صح البيع . فلو سمح البائع بعد اشتراط القطع على المشتري بترك الثمرة إلى بدو الصلاح جاز لصحة العقد ، ولو طالبه بالقطع لزمه ذلك .

وأما القسم الثالث : وهو أن تباع بيعا مطلقا لا يشترط فيه التبقية والترك ، ولا يشترط فيه القطع .

فمذهب الشافعي رحمه الله : أن البيع باطل .

وقال أبو حنيفة البيع جائز ، ويؤخذ المشتري بقطعها في الحال ، بناء على أصله في أن إطلاق العقد يقتضي تعجيل القطع : لأن من حقوق العقد تسليم المبيع من غير تأخير ، والتسليم لا يتم بالقطع ، وإذا كان إطلاق العقد فيها يقتضي تعجيل قطعها ، ثم ثبت أنهما لو شرط تعجيل القطع صح العقد ، وكذا مع إطلاق العقد المقتضي تعجيل القطع .

[ ص: 192 ] قال : ولأن العقد إذا أمكن حمله على وجه يصح لم يجز أن يحمل على وجه الفساد ، فوجب أن يحمل إطلاق العقد على القطع ليصح ، ولا يحمل على التبقية ليفسد .

ولأنها ثمرة لم يشترط تركها فجاز بيعها كالمشروط قطعها ، ولأن كل ثمرة جاز بيعها بشرط القطع جاز بيعها على الإطلاق كالبادية الصلاح .

ودليلنا : ما رويناه من الأحاديث الخمسة باختلاف ألفاظها واتفاق معانيها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها فكان الاستدلال بها من وجهين :

أحدهما : أن النهي توجه إلى المعهود من البيعات ، والمعهود من البيع إطلاق العقد دون تقيده بالشرط ، فصار النهي بالعرف متوجها إلى البيع المطلق دون المقيد .

والاستدلال الثاني : أن النهي لا يخلو من أن يتوجه إلى بيعها بشرط القطع ، أو على شرط الترك ، أو على الإطلاق ، فلم يجز أن يحمل على شرط القطع لجوازه إجماعا ، ولا على شرط الترك لأن النهي ورد مطلقا ، فثبت أنه محمول على البيع المطلق .

ولأن إطلاق العقد يقتضي التبقية والترك : لأن العرف في القبض يجري مجرى الشرط ، والعرف في الثمار أن تؤخذ وقت الجداد فصار المطلق كالمشروط تركه ، ثم ثبت أن اشتراط تركها مبطل للبيع ، فكذا إطلاق عقدها الذي يجري بالعرف مجرى اشتراط تركها يجب أن يكون مبطلا للبيع .

ولأنها ثمرة لم يبد صلاحها فوجب أن يصح إفراد بيعها من غير اشتراط قطعها قياسا على بيعها بشرط الترك .

فأما الجواب عما ذكروه في أن إطلاق عقدها يقتضي تعجيل قطعها ، فهو أنها دعوى تخالف فيها ، وليس التسليم بالقطع والتحويل ، وإنما هو برفع اليد والتمكين .

وأما حمله على وجه الصحة فغير مسلم ، وإنما يحمل على ما يقتضيه إطلاقه ، ثم يعتبر حكمه في الصحة والفساد .

وأما قياسه على المشروط قطعه فلا يصح : لأن المطلق يقتضي الترك فبطل ، والمشترط قطعه لا يقتضي الترك فصح .

وأما قياسه على ما بدا صلاحه فلا يصح من وجهين :

أحدهما : أنه يرفع النص فكان مطروحا .

والثاني : أن ما بدا صلاحه قد نجا من العاهة ، وجاز بيعه بشرط الترك ، فلذلك جاز مطلقا وليس كذلك ما لم يبد صلاحه .

[ ص: 193 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية