الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يجوز أن يستثني من التمر مدا : لأنه لا يدري كم المد من الحائط ، أسهم من ألف سهم أو من مائة أو أقل أو أكثر فهذا مجهول ، ولو استثني ربعه أو نخلات بعينها فجائز " .

قال الماوردي : وهذا صحيح . وجملة الاستثناء أنه لا يخلو حاله وحال ما بقي من البيع بعده من أربعة أقسام :

أحدها : أن يكون الاستثناء معلوما ، والمبيع بعده معلوما ، وهذا على ضربين : مشاع ومجوز .

[ ص: 202 ] فالمجوز : أن يقول بعتك ثمرة هذا الحائط إلا ثمرة هذه النخلات العشر بعينها ، فهذا بيع جائز باتفاق العلماء .

والمشاع : أن يقول بعتك ثمرة هذا الحائط إلا ربعها ، فهذا بيع صحيح ، ويكون المبيع ثلاثة أرباعها مشاعا .

وقال الأوزاعي : هذا بيع باطل : لأنه بيع على شرط الشركة . وهذا خطأ من وجهين :

أحدهما : أنه لو قال بعتك ثلاثة أرباعها صح ، وكذا فلو قال بعتكها إلا ربعها : لأن المعقود عليه في الحالتين ثلاثة أرباعها .

والثاني : أنه لو كان الاستثناء عشر المساكين جاز ، وإن كان مستحقا مجهول العين ، فأولى أن يجوز الاستثناء لنفسه لأن مستحقه معين .

والقسم الثاني : أن يكون الاستثناء مجهولا ، والمبيع بعده مجهولا ، وهو ضربان : مشاع ومجوز .

فالمشاع : أن يقول بعتك هذه الثمرة إلا قوت نفسي ، أو إلا ما يأكله عبيدي ، فهذا باطل باتفاق : لأن قدر قوته مجهول ، وما يأكله عبيده مجهول ، فصار المبيع الثاني مجهولا .

فإن قيل : فقد روي عن ابن عمر أنه باع حائطا ، واستثنى منه قوت غلمانه .

قيل : يحتمل أن يكون استثنى منه قدرا معلوما جعله قوت غلمانه .

وكذا لو قال : بعتك هذه الثمرة إلا عشر قواصر منها ، أو في كل يوم سلة من رطبها ، كان المبيع باطلا : للجهل بالمبيع الثاني .

وأما المجوز فهو أن تقول بعتك هذه الثمرة إلا عشر نخلات منها لا بعينها ، وهذا بيع باطل .

وقال مالك : إن كان قدر ثلث الثمرة فما دون جاز البيع ، وكان له عشر نخلات وسطاء . وهذا غلط : لأن الاستثناء يوقع جهالة في المبيع من وجهين :

أحدهما : أن ثمر النخل يختلف في القلة والكثرة .

والثاني : أن المستثنى غير مجوز ولا مشاع في الجملة ، وقد يجوز أن يهلك النخل إلا عدد ما استثنى ، فيختلفان في الباقي هل هو المبيع أو المستثنى ، وهذا من أكبر الجهالات غررا فكان ببطلان البيع أولى .

والقسم الثالث : أن يكون الاستثناء معلوما ، والمبيع بعده مجهولا ، وهو أن يقول : بعتك هذه الثمرة إلا صاعا منها ، فهذا باطل .

[ ص: 203 ] وقال مالك : هو بيع جائز : لأنه لما جاز استثناء ربعها ، والربع مجهول الكيل كان استثناء ما هو معلوم الكيل أولى بالجواز .

ودليلنا على فساده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن الثنيا في البيع " وهو ما ذكرنا .

ولأن هذا الاستثناء يوقع جهالة في البيع : لأنه لا يعلم قدر ما خرج بالاستثناء ، هل هو عشر أو ربع ، ولا ما بقي بعد الاستثناء ، هل هو تسعة أعشار أو أقل ، والمبيع إذا كان مجهولا بطل البيع . ولأنه يجوز أن تهلك الثمرة إلا قدر ما استثنيا ، فيختلفان هل هو المبيع أو المستثنى ، وإذا لم يتعين المبيع من المستثني كان باطلا ، وهذا مأمون في استثناء جزء شائع منها : لأن التالف منها والباقي فيها .

والقسم الرابع : أن يكون الاستثناء مجهولا والمبيع بعده معلوما ، وهو أن يقول بعتك من هذه الثمرة مائة صاع والباقي لي ، فإن علما أن ما فيها مائة صاع فصاعدا صح البيع إن أمكن كيل الثمرة ، وبطل إن لم يمكن كيلها ، ولا يصح الخرص فيها ، ولأن المبيع بالخرص لا يجوز ، لأنه تخمين وحدس ، وإنما يجوز في حق المساكين لأنه مواساة .

وإن لم يعلما أن ما في الثمرة مائة صاع كان البيع باطلا للجهل بوجود المبيع ، فلو كيلت من بعد فكانت مائة صاع فصاعدا لم يصح البيع بعد فساده . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية