الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يرجع من اشترى الثمرة وسلمت إليه بالجائحة على البائع ، ولو لم يكن سفيان وهن حديثه في الجائحة لصرت إليه ، فإني سمعته منه ، ولا يذكر الجائحة ثم ذكرها ، وقال : كان كلام قبل وضع الجوائح لم أحفظه ولو صرت إلى ذلك لوضعت كل قليل وكثير أصيب من السماء بغير جناية أحد ، فإما أن يوضع الثلث فصاعدا ولا يوضع ما دونه ، فهذا لا خبر ولا قياس ولا معقول " .

قال الماوردي : وصورتها في رجل باع ثمرة على رءوس نخلها ، وسلمت إلى المشتري ، وتلفت بالجائحة قبل جدادها ، فقد كان الشافعي في القديم يذهب إلى أنها من ضمان بائعها وأن البيع باطل ، وبه قال أبو عبيد ، وأحمد وإسحاق .

ورجع عن هذا في الجديد ، وقال : تكون من ضمان المشتري فلا يبطل البيع ، بتلفها وبه قول أبو حنيفة والليث بن سعد .

وقال مالك ، رضي الله عنه : إن كان تلفها بجناية آدمي ، فهي من ضمان المشتري وإن [ ص: 206 ] كانت بجائحة من السماء ، فإن كانت قدر الثلث فصاعدا فهي من ضمان البائع ، وإن كانت دون الثلث فهي من ضمان المشتري .

واستدل من جعل الجوائح مضمونة على البائع بحديث سفيان بن عيينة ، عن حميد بن قيس ، عن سليمان بن عتيق ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع السنين وأمر بوضع الجوائح " .

وبحديث ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق " وهذا نص .

قالوا : ولأن الثمرة لا يتم قبضها إلا بحدها من نخلها ، بدليل أنها لو عطشت وأضر ذلك بها ، كان للمشتري الخيار في الفسخ بحدوث هذا العيب ، وما حدث من العيب بعد القبض لا يستحق به المشتري الخيار ، وإذا دل ذلك على أنها غير مقبوضة ، وجب أن تكون بالغة من مال بائعها : لأن ما لم يقبض مضمون على البائع دون المشتري .

قالوا : ولأن قبض الثمرة ملحق بمنافع الدار المستأجرة : لأن العرف في الثمار أن تأخذ لقطة بعد لقطة ، كما تستوفى منافع الدار مدة بعد مدة ، فلما كان تلف الدار المستأجرة قبل مضي المدة مبطلا للإجارة وإن حصل التمكين ، وجب أن يكون تلف الثمرة المبيعة قبل الجداد مبطلا للبيع وإن حصل التمكين .

ودليل قوله في الجديد أن الجوائح لا يضمنها البائع ، ولا يبطل بها البيع ، ما رواه الشافعي عن مالك عن حميد عن أنس أن النبي ، صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الثمار حتى تزهى ، قيل وما تزهى ؟ قال : حتى تحمر .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه " فموضع الدلالة منه هو أنه لو كانت الجائحة مضمونة على البائع لما استضر المشتري بالجائحة قبل بدو الصلاح ، ولما كان لنهيه عنه حفظا لمال المشتري وجها : لأنه محفوظ إن تلف في الحالين بالرجوع على البائع ، فلما نهى عن البيع في الحال التي يخاف من الجائحة فيها : لأن لا يأخذ مال المشتري بغير حق ، علم أن الجائحة لا تكون مضمونة على البائع ، وأنها مضمونة فيما صح بيعه على المشتري .

وروت عمرة بنت عبد الرحمن تارة مرسلا وتارة مسندا عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من الأنصار ابتاع من رجل ثمرة فأصيب فيها فسأل البائع أن يحطه شيئا فحلف بالله أن [ ص: 207 ] لا يفعل ، فأتت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تألى فلان أن لا يفعل خيرا " .

فموضع الدلالة من وجهين :

أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الحط عن المشتري مخرج الخير والفضل ، لا مخرج الوجوب والحتم .

والثاني : أنه لم يجبر البائع على الحط عن المشتري حتى بلغ البائع ذلك فتطوع بحطه عنه ، ولو كان واجبا لأجبره عليه .

وروى الشافعي عن يحيى بن حسان ، عن الليث بن سعد ، عن عياض بن عبد الله ، عن أبي سعيد الخدري أن رجلا اشترى ثمرا فأصيب فيها فكثر دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تصدقوا عليه " . فتصدق الناس عليه ، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " .

فلو أن الجوائح مضمونة على المشتري لما أحوجه إلى الصدقة ، وجعل لغرمائه ما وجدوه ، ولكان يجعلها مضمونة على بائعها ويضعها على المشتري .

ومما يدل على ذلك أيضا أن الثمرة تصير مقبوضة على رءوس نخلها بالتمكين والتخلية ، بدليل أن للمشتري بيعها بعد التمكين منها ، ولو لم تكن مقبوضة لم يجز ، وتلف بعد القبض كان من ضمان المشتري دون البائع .

ثم من الدليل على ذلك : أن كل ما كان مضمونا على المشتري فيما دون الثلث ، كان مضمونا عليه فيما زاد على الثلث قياسا على غير الثمار .

فإن قال مالك : إن ما دون الثلث يلقطه الطير ، وتنشره النحلة غالبا فضمنه المشتري للعرف فيه ، وليس كذلك ما زاد على الثلث وبالجائحة .

قيل : هذا غلط : لأن ما يكون من ضمان أحد المتبايعين لا يقع الفرق فيه بين تلف قليله أو كثيره بعرف معتاد أو غيره .

ثم يقال : لم جعلته محددا بالثلث ؟ وهلا حددته بأقل منه أو وأكثر .

[ ص: 208 ] فإن قال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلث في حد الكثرة ، وما دونه في حد القلة فقال " الثلث والثلث كثير " .

قيل : فالثلث جعله النبي صلى الله عليه وسلم في حكم ما دونه في جواز الوصية به ، وأنت جعلته في حكم ما زاد عليه فقد خالفت فيما تعلقت به ، ومعنى قوله والثلث كثير ، أي كثير القليل لأجل أنه ملحق بما هو أقل منه .

فأما الجواب عن حديث سفيان أنه أمر بوضع الجوائح ، فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : ما قاله الشافعي من أنه حديث معلول لا يصح الاحتجاج به : لأن سفيان وهنه : لأنه قال قد كان بعد نهيه عن بيع السنين ، وقبل أمره بوضع الجوائح كلاما لم أحفظه ، فيجوز أن يكون فيما لم يحفظه ما يدل على مراده بوضع الجوائح ، وبصرف حكمه عن ظاهره ، والله أعلم .

والجواب الثاني : وهو قول أبي إسحاق أنه محمول على وضع الجوائح في بيع السنين المقترن به ، وما في معناه من بيوع الثمار الفاسدة .

والجواب الثالث : لبعض المتأخرين من أصحابنا : أن أمره بوضع الجوائح محمول على وضعها عن البائع دون المشتري : لأنه يحتمل الأمرين ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، والله أعلم .

وأما الجواب عن الخبر الثاني قوله " فلا يأخذ منه شيئا " فمن وجهين :

أحدهما : وهو جواب الطحاوي ، أنه محمول على ما قبل التسليم .

والثاني : أنه محمول على الندب والإرشاد ، كما قال : " تألى فلان أن لا يفعل خيرا " .

وأما الجواب عن قولهم : إنها على رءوس نخلها غير مقبوضة لأجل ما ثبت من الخيار بحدوث العطش فمن وجهين :

أحدهما : وهو جواب ابن أبي هريرة رضي الله عنه أن ثبوت الخيار لا يمنع من ثبوت القبض ، قال : لأن المقبوض في خيار الثلاث يستحق رده بما حدث من العيوب في زمان الخيار ، وإن كان القبض تاما فكذا الثمرة ، ولا يكون الخيار دليلا على عدم القبض .

والجواب الثاني : أن خيار العطش إنما استحقه المشتري لوجوب السقي على البائع ، ولم يكن له بالتلف رجوع : لأن الحط لا يجب على البائع .

وقول ابن أبي هريرة رحمه الله إن ما حدث بيد المشتري من العيب من زمان الخيار [ ص: 209 ] يستحق به الرد ، فليس بصحيح عندي ، بل لا خيار له فيه : لأنه بالقبض قد صار مضمونا على المشتري ، فما حدث في النقص كان من ماله لأنه من ضمانه .

وأما الجواب عن الاستدلال بالدار المؤجرة فلا يصح الجمع بينهما ، لأن ما يحدث من منافع الدار غير موجود في الحال ولا يقدر المستأجر على قبضه ، فبطلت الإجارة بتلف الدار قبل المدة وليست الثمرة كذلك : لأنها موجودة يمكن المشتري أن يتصرف فيها ، ويحدث في الحال جميعها ، فلم يبطل البيع بتلفها بعد التمكين منها ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية