الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 236 ] باب بيع المصراة

مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تصروا الإبل والغنم للبيع ، فمن ابتاعها بعد ذلك ، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ، إن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر " ( قال الشافعي ) والتصرية أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة ثم تترك من الحلاب اليوم واليومين والثلاثة حتى يجتمع لها لبن فيراه مشتريها كثيرا فيزيد في ثمنها لذلك ، ثم إذا حلبها بعد تلك الحلبة حلبة أو اثنتين ، عرف أن ذلك ليس بلبنها لنقصانه كل يوم عن أوله ، وهذا غرور للمشتري ، والعلم يحيط أن ألبان الإبل والغنم مختلفة في الكثرة والأثمان فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بدلها ثمنا واحدا صاعا من تمر " .

قال الماوردي : أما التصرية فهي الجمع ، يقال صريت الماء في الحوض ، إذا جمعته ، قال الأغلب :


رب غلام قد صرى في فقرته ماء الشباب عنفوان سنبته

ولذلك سميت الصرة : لأنها تجمع ما فيها ، قال الشاعر :


إنا صرينا حب ليلى فانبتر     وغرنا منه وكان من شعر

فقيل : شاة مصراة : لأن اللبن قد صرى في ضرعها ، أي جمع ، ويقال : محفلة أيضا ، وهي لغة أهل العراق مأخوذة من قولهم قد احتفل القوم إذا اجتمعوا ، وهذا محفل من الناس أي جمع ، فالتصرية غش وخداع للمشتري ، وإذا اشترى الرجل شاة فحلبها فبانت مصراة كانت عيبا وله الرد وهو قول الصحابة والتابعين والفقهاء .

إلا أبا حنيفة ومحمدا فإنهما خالفا الكافة ، وقالا : لا رد له ، فمن أصحابهما من قال : هي عيب ، لكن حلاب اللبن نقص يمنع من الرد بالعيب ، واستدلالهم فيه من وجهين :

أحدهما : دفع الخبر المعمول عليه في التصرية بوجوه نذكرها من بعد .

[ ص: 237 ] والثاني : أن الاستدلال بالمعنى في أن التصرية ليست بعيب وذلك بوجهين :

أحدهما : إن كبر الضرع بالتصرية ، وظن المشتري أن لبن العادة يجري مجرى كبيرة اللحم والسمن ، وظن المشتري أنه لكبرة اللبن ، فلما لم يكن هذا عيبا يوجب الرد لم تكن التصرية عيبا توجب الرد ، كما لو كان الجوف مليا بالعلف فظن المشتري أنه حمل .

والثاني : أن كبر الضرع بالتصرية لو كان عيبا إذا شاهده المشتري لكان عيبا وإن لم يشاهده كسائر العيوب ، فلما لم يكن عيبا مع فقد المشاهدة لم يكن عيبا مع المشاهدة .

والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه : ورود السنة من ثلاثة طرق عن أبي هريرة ، وابن مسعود ، وابن عمر رضي الله عنهم .

فأما حديث أبي هريرة فوارد من طريقين : أحدهما : رواه الشافعي ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تصروا الإبل والغنم للبيع فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر " .

والثاني : رواه الشافعي ، عن سفيان ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اشترى مصراة أو محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام ، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ، وصاعا من تمر لا سمراء " .

وأما حديث ابن مسعود ، فرواه الشافعي ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من اشترى محفلة فليحلب يومين أو ثلاثة فإن رضي أمسك وإلا فإن ردها يرد معها صاعا " .

وأما حديث ابن عمر ، فرواه أبو داود ، عن أبي كامل ، عن عبد الواحد ، عن صدقة بن سعيد ، عن جميع بن عمير ، عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام ، فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا " . فدلت هذه الأخبار كلها على أن التصرية عيب يوجب الرد من ثلاثة أوجه :

أحدها : نهيه عن التصرية للبيع ، وذلك يقتضي أن التصرية تدليس وعيب .

والثاني : أنه جعله بخير النظرين في الرد والإمساك ، والرد إنما يكون بعيب .

والثالث : أنه أوجب بدلا من لبن التصرية رد صاع من تمر ، فاقتضى أن يكون لبن [ ص: 238 ] التصرية قد تناوله العقد ، وحصل له من الثمن قسط يستحق بنقصه الرد ، وقد يتحرر من هذه الأدلة قياس ، فيقال : لأنه تدليس يختلف به الثمن فاقتضى أن يستحق به الرد كتسويد الشعر .

فأما دفعهم للخبر في المنع من الاستدلال به فمن وجهين :

أحدهما : قدح فيه .

والثاني : استعمال له .

فأما قدحهم فيه : فلأنه خبر واحد قد خالف الأصول من خمسة أوجه :

أحدها : أنه أوجب غرم اللبن مع إمكان رده .

والثاني : أنه أوجب غرم قيمته ووجوب مثله .

والثالث : أنه جعل القيمة تمرا وهي إنما تكون ذهبا أو ورقا .

والرابع : أنه جعلها مقدرة لا تزيد بزيادة اللبن ولا تنقص بنقصانه ، ومن حكم القيمة أن تختلف باختلاف المقوم في الزيادة والنقصان .

والخامس : أنه جعل له الرد مع ما حدث في يد المشتري من النقص . قالوا : فلما كان خبر التصرية مخالفا للأصول من هذه الأوجه الخمسة وجب العدول عنه إلى ما اقتضته الأصول : لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فخذوا به وإن خالفه فاتركوه " .

وأما استعمالهم له فهو أن يحمل على أن البائع والمشتري شرطا في عقد البيع أن الشاة تحلب في كل يوم عشرة أرطال فيكون هذا شرطا يفسد البيع ، فإن اتفقا على رد هذا الشرط وإبطاله في مدة الثلاث ، صح البيع ، وإن لم يبطلاه حتى مضت الثلاث بطل البيع ، فهذه جملة عولوا عليها في دفعنا عن الاستدلال بالخبر ، وهذه جملة فاسدة ، ولا يجوز أن تدفع سنة ثابتة .

أما قولهم إنه خبر واحد ، فيقال هذا خبر قد رواه جماعة منهم أبو هريرة ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وتلقاه الباقون بالقبول ، وانتشر العمل به في الصحابة انتشارا واسعا صار كالإجماع عليه ، فصار بأخبار التواتر أشبه ، على أن أخبار الآحاد إذا وردت موردا صحيحا لم يمنع الشرع من العمل بها ، وأما قولهم إنه مخالف للأصول ففيها جوابان :

أحدهما : أن ما ورد في التصرية فهو أصل بذاته ، لا تعتبر فيه موافقة الأصول ، كالدية على العاقلة والغرة في الجنين ، وإنما يبطل القياس لمخالفة الأصول .

فأما التصرية فلا ولو جاز أن يكون هذا باطلا لمخالفة الأصول مع كونه أصلا ، لجاز أن تكون تلك الأصول باطلة بهذا الأصل ، وإذا صح قلب هذا الأصل ، وهذا القول كان مطرحا [ ص: 239 ] ولزم اعتبار كل أصل بذاته ، ثم يقال لهم : كيف استخرتم استعمال الخبر في القهقهة والنبيذ مع مخالفتهما الأصول ، وامتنعتم من هذا ! فإن قالوا لورود الرواية ، قيل فكذلك التصرية .

فأما قوله صلى الله عليه وسلم : " ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى " فمعناه ما لم يكن في كتاب الله نص يدفعه فخذوا به ، ألا ترى إلى ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ما وجدنا في كتاب الله تعالى اتبعناه " ، هذا مع قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] .

والجواب الثاني : أن خبر التصرية غير مخالف للأصول من الأوجه التي ذكروها بل في الأصول ما يشهد له ويعاضده .

أما قولهم إن غرم القيمة مع إمكان الرد لا يجوز ، فالرد في لبن التصرية غير ممكن من وجهين :

أحدهما : نقص قيمته بعد الحلب وذهاب كثير من منافعه بطول المكث ، والثاني : أن لبن التصرية قد خالطه ما حدث في الضرع بعده على ملك المشتري ، فلم يمكن رده مع الجهل بما خالطه

وأما قولهم إنه أوجب غرم قيمته مع وجود مثله ، وجعله مقدرا مع اختلاف قدره في الضرع ، فالجواب أن ما كان مجهول القدر مجهول الوصف ، جاز الرجوع فيه إلى بدل مقدر بالشرع من غير مثل ولا تقوم كالغرة في الجنين يستوي فيها الذكر والأنثى ، وإن اختلفت دياتهما ، وما قدره الشرع في الشجاج كالموضحة التي تستوي دية ما صغر منها وما كبر .

وأما قولهم إن فيه عدولا عن التقويم إلى الثمن ، فليس بمنكر أن يرد الشرع في القيمة بما يخالف جنس الأثمان ، كما جاء الشرع في الديات بالإبل ، وفي جزاء الصيد بالغنم وفي الجنين بالغرة .

وأما قولهم إنه يوجب الرد مع ما حدث في يد المشتري من النقص ففيه جوابان :

أحدهما : أن النقص حادث في اللبن دون الشاة وهو إنما يرد الشاة دون اللبن .

والثاني : أن النقص الحادث الذي لا يوصل إلى معرفة العيب إلا بدلا يمنع من الرد كالذي يكون مأكوله في جوفه إذا كر .

وأما استعمالهم الحديث على ما ذكروه من الشرط فغلط من أربعة أوجه :

[ ص: 240 ] أحدها : أن نهيه عن التصرية لا يقتضيه .

والثاني : أنه جعل الرد للمشتري وحده ولو كان للشرط كان لهما .

والثالث : أنه جعل الرضا موجبا للإمضاء والسخط موجبا للرد ، ولم يجعله معلقا بإسقاط الشرط .

والرابع : أنه أوجب فيه رد صاع من تمر ، وإسقاط الشرط لا يوجب رد صاع من تمر .

فأما الجواب عن استدلالهم بأن هذا ظن من المشتري كما لو ظن سمن ضرعها لبنا ، وانتفاخ جوفها حملا ، فهو أن سمن الضرع ليس بتدليس منه فلم يكن عيبا ، والتصرية تدليس منه فكانت عيبا ، وأما انتفاخ جوفها بالعلف فهو وإن كان من فعله فهو مندوب إلى إكثار علفها وغير منهي عنه ، فلم يكن تدليسا . والتصرية منهي عنها ، فكانت تدليسا ، فكذا لو ابتاع غلاما قد أخذ دواة وأقلاما وسود يده ليوهم المشتري أنه كاتب فكان غير كاتب ، فليس هذا عيبا يستحق به المشتري الرد : لأنه قد كان يمكنه اختباره قبل الشراء ، ولكون ذلك منه محتملا : لأنه يجوز أن يكون كاتبا ، ويجوز أن يكون غلاما لكاتب .

وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لو كان عيبا مع الرؤيا لكان عيبا مع فقد الرؤيا كسائر العيوب ، فهو أننا نقول إنه عيب مع الرؤيا وفقد الرؤيا كسائر العيوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية