الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : هل يملك العبد أم لا ؟

مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ومن اشترى عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع فيكون مبيعا " .

قال الماوردي : لا خلاف بين الفقهاء أن العبد لا يملك بالميراث ، ولا يملك ما لم يملكه السيد ، واختلفوا هل يملك إذا ملكه السيد مالا أم لا بعد اتفاقهم أنه يملك بضع زوجته ؟

فقال مالك ، وداود ، وهو قول الشافعي في القديم : إن العبد يملك المال بتمليك سيده حتى يجوز له أن يشتري ويتصرف في المال كيف يشاء .

[ ص: 266 ] وقال أبو حنيفة ، والشافعي في الجديد : إن العبد لا يملك المال ، وإن ملكه سيده ولا يجوز أن يشتري ولا يتصرف فيما بيده إلا بإذن سيده ، واستدل من ذهب إلى أن العبد يملك بقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله [ النور : 32 ] فأخبر أنه يغنيهم ومن لا يملك لا يوصف بالغنى ، وبما روى الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع " فأضاف المال إليه بلام التمليك ، فدل على أنه يملك ، وبما روي " أن سلمان الفارسي وكان عبدا حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه طبقا فيه رطب ليختبر حال نبوته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما هذا ؟ " قال : صدقة . فرده عليه وقال : " إنا لا يحل لنا الصدقة " . ثم جاءه بعد ذلك بطبق آخر ، فقال : " ما هذا ؟ " فقال : هدية . فقبله ، فقال : " إنا نقبل الهدية ونكافئ عليها " ، فلو كان العبد لا يملك لما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول هديته ، ولأنه آدمي فجاز أن يملك كالحر ، ولأن الرق لا يمنع من جواز الملك كالمكاتب ، ولأن كل من ملك شيئا ملك بدله ، فلما ثبت أن العبد يملك بضع زوجته وجب أن يصح منه ملك بدله ، وهو المهر : ولأن كل من صح أن يملك البضع نكاحا صح أن يملكه شراء ، كالحر ، ولأن كل من ملك عليه المال في ذمته ملكه في غيره كالمكاتب .

والدليل على صحة ما قاله في الجديد : أن العبد لا يملك وإن ملك ، قوله تعالى : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء [ النحل : 175 ] وفيها دليلان : أحدهما : أنه نفى عنه القدرة فكانت على عمومها في الملك وغيره ، ولأنه لما نفى عنه القدرة وقد تساوى الحر في البطش والقوة دل على أنه أراد ما يخالف الحر فيه من القدرة على الملك دون غيره .

وقال تعالي : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء [ الروم : 28 ] . وموضع الدليل من هذه الآية أن الله تعالى ضربها مثلا لنفسه فقال : لما كان عبيدكم الذين ملكت أيمانكم لا يشاركونكم في أملاككم ، كذلك أنتم عبيدي لا تشاركوني في ملكي . فلو قيل : إن العبد يملك مثل سيده بطل ضرب المثل به . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع " .

فوجه الدليل فيه أنه لما جعل مال العبد لسيده في حال زوال ملكه وارتفاع يده فأولى أن يكون لسيده في حال ملكه وثبوت يده ، ودليل ثان من الخبر : وهو أن الملك تابع للمالك فلو كان ما أضيف إلى العبد من المال ملكا له ، لوجب أن ينتقل وجه ، فلما لم ينتقل وكان ملكا للسيد بأن بان من قبل على ملك السيد ، ولأنه مملوك ، فلم يجز أن يكون مالكا كالبهيمة ولأن الآدميين [ ص: 267 ] صنفان : مالكون ومملوكون ، فلما لم يجز أن يكون المالك مملوكا ، لم يجز أن يكون المملوك مالكا ، ولأن الفرق الذي فيه من جنس الرق الذي في غيره ، فلما لم يجز أن يملك رق نفسه لم يجز أن يملك رق غيره .

وتحريره قياسا أنه رقيق فلم يجز أن يملك الرقيق قياسا على رق نفسه : ولأن الإرث من أقوى أسباب الملك لحصول الملك به من غير قصد ، فلما لم يملك العبد بالإرث ، وهو من أقوى أسباب التمليكات ، فأولى أن لا يملك بأضعف أسباب التمليكات ، وتحريره علة أن كل سبب ليملك به المال لم يملك به العبد كالإرث ، ولأن الرق ينافي الملك بدليل أن حدوثه يزيل ملك الحربي ، فلما كان الرق قاطعا لاستدامة الملك فأولى أن يكون مانعا من ابتداء الملك . ولأن تمليكه العبد يؤدي إلى تناقض الأحكام ، وهو أن يملك العبد عبدا فيملكه مالا فيشتري مولاه من سيده فيصير كل واحد من العبدين سيدا لصاحبه ، فتتناقض أحكامهما : لأن كل واحد منهما يصير قاهرا لأن سيده مقهور لأنه عبد وعليه النفقة لأنه سيد ، وله النفقة لأنه عبد ، وما أدى إلى تناقض الأحكام منع منه ، كالزوجة إذا تملكت زوجها ، لما كان اجتماع الزوجين والملك متناقضا أبطلت الزوجية وأثبت الملك .

وأما الجواب عن قوله تعالى : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله [ النور : 32 ] . فهو ما ذكرنا من التأويل أن يغنيهم بحلال الوطء عن حرامه على أنه يحمل على غناهم بالمال بعد العتق ، وأما الجواب عن قوله من باع عبدا وله مال فهو ما ذكرناه من الاستدلال منه .

وأما الجواب عن حديث سلمان رضي الله عنه فمن وجهين :

أحدهما : أن سلمان لم يكن عبدا ، وإنما كان حرا مغصوبا .

والجواب الثاني : أنه كان قد أهدى بإذن سيده : لأن من جعل مالكا منعه من الهدية إلا بإذن سيده .

وأما الجواب عن المكاتب فهو عندنا غير مالك ، وإنما يجوز له التصرف فيما بيده .

والسيد ممنوع لأجل الكتاب من انتزاع ما في يده : ليحصل له الأداء فيعتق ، ولو جاز له انتزاعه لأعوزه الأداء .

وأما الجواب عن قياسهم على الحر ، فهو أن المعنى في الحر أنه لما ملك أرش الجناية عليه ملك غيره ، ولما لم يملك العبد أرش الجناية لم يملك غيره .

وأما الجواب عن قولهم إن من ملك شيئا ملك بدله ، فهو أن العبد ليس يملك البضع وإنما يستبيح الاستمتاع به من الزوجة ، والعبد والحر ، في الاستباحة سواء كما يستويان في أكل الميتة عند الضرورة ، ومن هذا الوجه خالف عقد النكاح ملك اليمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية