الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 287 ] باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل من الثمن

مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا بأس بأن يبيع الرجل السلعة إلى أجل ويشتريها من المشتري بأقل بنقد وعرض وإلى أجل . قال بعض الناس : إن امرأة أتت عائشة فسألتها عن بيع باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء ، ثم اشترته منه بأقل . فقالت عائشة : بئسما اشتريت وبئسما ابتعت ، أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . ( قال الشافعي ) وهو مجمل ولو كان هذا ثابتا فقد تكون عائشة عابت البيع إلى العطاء : لأنه أجل معلوم ، وزيد صحابي ، وإذا اختلفوا فمذهبنا القياس ، وهو مع زيد ونحن لا نثبت مثل هذا على عائشة ، وإذا كانت هذه السلعة لي كسائر مالي لم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري ؟ " .

قال الماوردي : وهذا كما قال . إذا باع الرجل سلعة بثمن حال أو مؤجل فافترقا على الرضا به جاز أن يبتاعها من المشتري قبل قبض الثمن وبعده بمثل ذلك الثمن وبأكثر منه أو أقل ، من جنسه أو غير جنسه ، حالا ومؤجلا ، وبه قال من الصحابة ابن عمر ، وزيد بن أرقم ، وجل التابعين وجمهور الفقهاء .

وقال مالك : لا يجوز أن يشتريه بأقل من ذلك الثمن نقدا ويجوز أن يشتريه بمثله أو بأكثر منه نقدا ونسيئا .

وقال أبو حنيفة : إن كان الثمنان من جنس واحد يدخله الربا كالنقدين لم يجز أن يبتاعه ثانية إلا بمثل الثمن الأول من غير زيادة ولا نقص ، وإن كان الثمن ما لا ربا فيه كالعروض جاز أن يبتاعه ثانية بأكثر من الثمن الأول وأقل ، وإن كان الثمنان من جنسين فيهما الربا كالذهب والورق جاز التفاضل بين الثمنين قياسا ولم يجز استحسانا .

واستدلوا برواية ابن أبي إسحاق السبيعي عن أمه عالية بنت أيفع قالت : خرجت أنا وأم حبة إلى الحج فدخلنا على عائشة رضي الله عنها فسلمنا عليها فقالت : من أين ؟ قلنا من الكوفة . كأنها أعرضت فقالت لها أم حبة : يا أم المؤمنين ، كانت لي جارية وبعتها زيد بن أرقم بثمان مائة درهم إلى العطاء ، فأراد بيعها فاشتريتها منه بست مائة درهم نقدا . فقالت عائشة رضي الله عنها : بئس ما شريت وبئس ما ابتعت ، أخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع [ ص: 288 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب ، فقالت : أرأيت لو أخذت رأس مالي . قالت : فتلت عائشة رضي الله عنها قوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف [ البقرة : 275 ] .

قالوا فلما أبطلت عائشة رضوان الله عليها البيع وجهاد زيد لم يجز أن يكون عن اجتهاد منها بل عن نص وتوقيف لأمرين :

أحدهما : أن القياس لا يقتضيه .

والثاني : أن إبطال الجهاد بالاجتهاد لا يجوز فثبت أن قول عائشة رضي الله عنها محمول على سماعها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قالوا وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عمن باع حريرة بمائة درهم ، ثم اشتراها بخمسين درهما ، فقال : دراهم بدراهم متفاضلة وحريرة دخلت بينهما . قالوا : ولأن ذلك ذريعة إلى الربا ومؤديا إليه ، وما كان مؤديا إلى الربا كان ممنوعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " . وقال صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " . يعني بقوله جملوها أي أذابوها فلعنهم : لأنهم فعلوا ما أداهم إلى الحرام . ولأن البائع في ابتياعه الثاني قد استفضل زيادة ليس في مقابلتها عوض فوجب أن يمنع منه لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن .

والدلالة على ما ذهبنا إليه من جواز البيع عموم قوله تعالى وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] ولأن كل سلعة جاز بيعها من غير بائعها بثمن جاز بيعها من بائعها بذلك الثمن كالعرض . ولأن كل سلعة جاز بيعها من شخص بعرض جاز بيعها منه بقيمة ذلك العرض كالأجنبي . ولأنه بيع لا يحرم التفاضل في عوضه فوجب أن لا يكون الرجوع في تقدير ثمنه إلى عاقد كالبيع الأول . ولأن لكل واحد من العقدين حكم نفسه بدليل أن كل واحد منهما يصح مع التراضي ويبطل مع الإكراه ويفتقر إلى البدل والقبول ، وإذا انفرد كل واحد منهما بحكم نفسه لم يجز اعتبار أحدهما بالآخر ولا بناء أحدهما على الآخر .

وأما الجواب عن استدلالهم بحديث عائشة رضي الله عنها فمن وجوه :

أحدها : ضعف إسناده ووهاء طريقه .

قال الشافعي : قلت لمن احتج بهذا الحديث : أتعرف هذه المرأة . فقال : لا . فقلت : كيف يصح لك الاحتجاج بحديث من لا تعرفه على أن أبا حنيفة لا يقبل من أحاديث النساء إلا ما روته عائشة وأم سلمة .

والجواب الثاني : أن عائشة رضي الله عنها إنما أبطلت البيع إلى العطاء : لأنه أجل مجهول والآجال المجهولة يبطل بها البيع .

[ ص: 289 ] فإن قالوا : إنما أنكرت البيع الثاني : لأنها قالت بئس ما اشتريت وبئس ما ابتعت تكريرا لإنكار البيع الثاني . قيل : هذا غلط : لأنها قالت : بئس ما شريت بمعنى بعت قال الله تعالى وشروه بثمن بخس [ يوسف : 20 ] أي باعوه وقال الشاعر :


وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامة

والجواب الثالث : أنه لو سلم أن إنكار عائشة رضي الله عنها توجه إلى البيع الثاني دون الأول ، لما كان فيه دليل : لأن زيدا خالفها ، وإذا اختلف الصحابيان وكان القياس مع أحدهما كان قول من عاضده القياس أولى ، والقياس مع زيد دون عائشة رضي الله عنها . فإن قيل : فليس الاحتجاج بقول عائشة وإنما الاحتجاج بالتوقيف في قولها : لأنها لا تبطل جهاد زيد باجتهادها . قيل : لا يصح حمل قولها على التوقيف من وجهين :

أحدهما : أنه إثبات نص باستدلال وإبطال قياس باحتمال .

والثاني : إمكان مقابلة ذلك بمثله في حمل ما ذهب إليه زيد على التوقيف ، فإذا أمكن معارضة الشيء بمثله سقط ، وليس ما ذكرته عائشة رضي الله عنها من أن زيدا قد أبطل جهاده دليل على توقيف : لأنه لا يجوز أن يضاف إلى أحد من الصحابة أنه علم بنص فخالفه ، وإن لم يعلم بما لم يبطل اجتهاده ، وليس هذا القول منها إلا كقول ابن عباس رضي الله عنه : ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا ، وكقوله في العول : ما جعل الله في المال نصفا وثلثين ، من شاء باهلته عند الحجر الأسود ، يعني لاعنته ، ولم يدل هذا القول منه مع ما فيه من الوعيد والملاعنة على أن في الجد والعول نصا .

وأما الجواب عن حديث ابن عباس رضي الله عنه فهو الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها .

وأما الجواب عن قولهم : إنه ذريعة إلى الربا الحرام ، فغلط بل هو سبب يمنع من الربا الحرام ، وما منع من الحرام كان ندبا . ألا ترى إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " قال : لا والله يا رسول الله ، إنا لنأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بثلاثة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفعل . بع الجمع بالدراهم ، ثم اشتر بالدراهم جنيبا " . والجمع هو التمر المختلط الرديء ، والجنيب هو الجيد ، فجعل ذلك ذريعة إلى ترك الربا وندب إليه .

وأما الجواب عن قولهم أنه قد استفضل زيادة ليست في مقابلة عوض . أنه إذا انفرد [ ص: 290 ] كل واحد من العقدين بحكم نفسه لم يصح اعتبار هذا ، وكان حكم العقد الثاني مع البائع كحكمه مع غير البائع ، على أن كل واحد من العقدين قد قابل عوضا مضمونا .

التالي السابق


الخدمات العلمية