الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال ولا أحب مبايعة من أكثر ماله من ربا أو من حرام ولا أفسخ البيع لإمكان الحلال فيه " .

قال الماوردي : وهذا كما قال . تكره معاملة من لا يتوقى الشبه في كسبه ، ومن خلط الحرام بماله لقوله صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فلن تجد فقد شيء تركته لله " ولقوله صلى الله عليه وسلم " حلال بين وحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات ومن يحم حول الحمى يوشك أن يقع فيه " . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو صليتم حتى تصيروا كالحنايا ، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار ما تقبل ذلك منكم إلا بورع شاف . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : من لم يبال من أين مطعمه من أين مشربه لم يبال الله تعالى من أي أبواب جهنم أدخله " وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ملاك دينكم الورع . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا دخل السوق يتجر فقال له : هل تعرف أبواب الربا فقال : لا . فدفع إليه فأسا وقال له : امض فاحتطب . والورع في الدين مندوب إليه ، وتوقي الشبه فيه مأمور به .

[ ص: 311 ] وإذا كان كذلك فلا يخلو حال من تعامله ببيع أو قرض أو تقبل هبة أو هدية من ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون ممن يتوقى الشبه ويعلم أن ماله حلال فمعاملة مثله هي المستحقة .

والثاني : أن يكون ممن يبيع الحرام وقد تعين لنا تحريم ماله فمعاملة هذا حرام ، والعقود معه على أعيان ما بيده من هذه الأموال باطلة ، لا يجوز لأحد أن يتملك عليه شيئا منها .

والثالث : أن يكون من طالبي الشبه وملتمسي الحرام ، لكن ليس يتعين ذلك المال لاختلاطه بغيره من الحلال ، كاليهود الذين في أموالهم الربا وأثمان الخمور ، وقطاع الطريق ، وعمال الضرائب ، وكالسلطان الجائر ، الذي قد يأخذ الأموال من غير وجهها ، إلى من جرى مجراه فتكره معاملتهم لما وصفنا ورعا واحتياطا ، ولا يحرم ذلك في الحكم بل يجوز ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اقترض من أبي الشحم اليهودي أصوعا من شعير ، وقد كان ممن لا يتوقى الربا . مع ما أخبر الله تعالى في كتابه عن كافة اليهود بقوله تعالى : سماعون للكذب أكالون للسحت ولأن الله تعالى قد أمرنا بأخذ الجزية من اليهود ، ولو حرمت علينا أموالهم لما جاز أن نأخذها في جزيتهم ، ولأنهم إذا أسلموا أقروا على أموالهم ولو حرمت لحرم إقرارهم عليها بعد إسلامهم ، وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلا سأله فقال : إن لي جارا يربي أفآكل من ماله فقال : لك مهنأه وعليه مأثمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية