الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولو اشترى مائة ذراع من دار لم يجز لجهله بالأذرع ، ولو علما ذراعها فاشترى منها أذرعا مشاعة جاز " .

قال الماوردي : وهذا صحيح .

ولو اشترى دارا أو أرضا بحدودها وهما لا يعلمان مبلغ ذرعها ، كان البيع جائزا كالصبرة : لأن الجملة بالمشاهدة معلومة .

وكذا لو اشترى نصف جميع الدار والأرض التي يعرف مبلغ ذرعها مشاعا جاز ، ولو اشترى أرضا مذارعة كل جريب بدينار ، فإن كانا يعلمان مبلغ ذرعها جاز ، وإن كانا لا يعلمان مبلغ ذرعها ، ففيه وجهان :

أحدهما : وهو قول البغداديين ، أن لا يجوز للجهل بمبلغ الثمن .

والوجه الثاني : وهو قول البصريين ، أنه يجوز لعقده بما يصير الثمن معلوما به كالصبرة إذا باعها كل قفيز بدرهم وهما لا يعلمان مبلغ كيلها .

فلو باعه الأرض مذارعة كل جريب بدينار على أنها عشرة أجربة فخرجت من الذرع تسعة أجربة ، ونقصت جريبا فالبيع جائز ، ونقصانها عيب يوجب خيار المشتري في الفسخ أو المقام على التسعة بالحساب من الثمن .

ولو خرجت في الذرع تزيد جريبا يعني خرج أحد عشر جريبا ، ففي البيع قولان : أحدهما : أن البيع باطل : لأن البائع لا يجبر على تسليم الأرض بحدودها مع الزيادة التي لم يتناولها العقد .

والقول الثاني : أن البيع جائز : لأن قدر ما يتناوله العقد من عدد الجربان مقدور على تسليمه ، ويكون البائع شريكا بالجريب الزائد ، إلا أن هذا عيب لأن دخول اليد بالشركة نقص ، فيكون المشتري بالخيار في الفسخ أو المقام على الذرع المشروط دون القدر الزائد .

فلو اشترى من الأرض كل جريب بدينار ولم يذكر قدر ما اشتراه من الجربان ، فالبيع باطل : لأنه اشترى بعضا مجهولا .

[ ص: 331 ] فأما مسألة الكتاب فصورتها : في رجل اشترى مائة ذراع من دار ، أو جريبا من أرض ، فإن كانا يعلمان ذرع الدار وأنها ألف ذراع صح البيع .

وقال أبو حنيفة : لا يصح البيع إلا أن يعقد على سهم منها كنصف أو ثلث أو عشر .

وهذا قول مردود : لأنه فرق بين قوله قد اشتريت عشرها ، وبين قوله قد اشتريت مائة ذراع وهي ألف ذراع في أن المعقود عليه عشرها . فأما إن جهلا مبلغ ذرعها فالبيع باطل : لأن المبيع منها يصير مجهول القدر ، إذ ليس يعلم أن يكون نصفا أو عشرا .

وهكذا لو قال : بعتك هذه الدار إلا مائة ذراع منها ، لم يجز إن جهلا مبلغ ذرعها ، وجاز إن علماه . ولو قال : قد ابتعت مائة ذراع من هذه محوزة على أن تذرع لي من أي موضع شئت منها كان البيع باطلا : لاختلاف قيم أماكنها ، بخلاف الصبرة التي تستثنى ، وأقيم جميعها ، وجرى مجرى من ابتاع بطيخا أو رمانا عددا قبل أن يجوزه ، فبطل بيعه لاختلاف قيمة ذلك بالصغر والكبر ، والجودة والرداءة . ولكن لو قال : قد ابتعت مائة ذراع من هذه الدار على أن تذرع لي من مقدمها ، أو قال من مؤخرها ، فإن لم يذكر أنه يذرع ذلك له في عرض الدار كله لم يجز : لأنه قد يحتمل أن يلتمس من مقدمها طولا من غير استيفاء العرض .

وإن ذكر أنه مستوفي المائة ذراع من مقدمها في جميع العرض : فإن كان قد علما الموضع الذي ينتهي إليه الذرع صح البيع : لأنه يصير محوزا . وإن لم يعلما موضع الانتهاء في صحة البيع وجهان :

أحدهما : صحيح ، وبه قال أبو إسحاق المروزي وابن أبي هريرة لأن تعيين الابتداء يفضي إلى معرفة الانتهاء .

والوجه الثاني : أن البيع باطل ، وهو عندي أصح : لأن البيع لا يكون مشاعا في الجملة ولا محدودا بالإجازة .

فصل : فأما بيع الثياب عددا وذرعا فينظر : فإن بيع الثوب مذارعة كل ذراع بدرهم ، فبيعه جائز ، سواء علما مبلغ ذرعه قبل العقد أو جهلاه وهذا مما اتفق عليه البغداديون والبصريون وإن اختلفوا في بيع الأرض مذارعة وهو حجة البصريين عليهم . فلو تبايعا الثوب مذارعة ، كل ذراع بدرهم على أنه عشرة أذرع فنقص ذراع ، فالبيع جائز ، والمشتري بالخيار في أخذه ناقصا بحسابه من الثمن أو فسخه ، ولو زاد ذراعا كان في بيعه قولان : كالأرض فلو باعه ذراعا من الثوب بدرهم فإن علما ذرع جميعه صح ، وإن لم يعلما ذرع جميعه فإن لم يعينا موضع الذراع المبيع من الثوب لم يجز وكان البيع باطلا . فإن عيناه فإن قدراه وعلما انتهاءه جاز .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز لما في قطعه من إدخال النقص في الذراع المبيع والثوب الباقي وهذا تعليل يفضي إلى نقص في جميع المباعات لما يستحق من قسمتها المفضي إلى نقص الحصص ، فاقتضى أن يكون مطروحا .

[ ص: 332 ] وإن عينا ابتداءه ولم يعينا انتهاءه ففي جواز بيعه وجهان على ما مضى في الأرض .

فأما بيع الثوب عددا وهو أن يبيع رزمة ثياب عددا كل ثوب بدينار بعد مشاهدة كل ثوب منها فالبيع جائز ، فلو باعه الرزمة كل ثوب بدينار على أن فيها عشرة أثواب وكان فيها تسعة أثواب ، فالبيع جائز ، وللمشتري أن يأخذها بالقسط من الثمن .

ولو زادت ثوبا فالبيع في جميعها باطل قولا واحدا ، بخلاف الأرض والثوب الواحد إذا بيعا مذارعة : لأن الثياب قد يختلف ، وليس يمكن أن يكون الثوب الزائد مشاعا في جميعها ومساويا لباقيها ، وما زاد على الثوب الواحد والأرض فمتقارب لباقيه ، ويمكن أن يكون مشاعا في جميعه . ولو باعه ثوبا واحدا من الرزمة بدينار فإن عينه عليه صح البيع فيه ، وإن لم يعينه عليه كان بيعه باطلا لاختلاف الأثواب ، ولو ابتاع رزمة ثياب وإن لم يعلم عددها بعشرة دنانير جاز إذا شاهد كل ثوب منها كالصبرة والأرض ، وكذلك لو ابتاع نصفها أو ربعها مشاعا صح البيع .

التالي السابق


الخدمات العلمية