الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يجوز بيع اللبن في الضروع لأنه مجهول " .

قال الماوردي : وهذا كما قال . بيع اللبن في الضرع لا يجوز لا كيلا ولا جزافا . وأجاز الحسن البصري بيعه في الزمان القريب : لأنه لما جاز بيعه مع الشاة جاز بيعه مفردا عنها .

وهذا ليس بصحيح : لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللبن في الضرع والصوف على الظهر وقد روى هذا الحديث موقوفا على ابن عباس . ولأنه مجهول القدر غير مشاهد ولا معلوم ، فلم يصح بيعه ، ولأنه قد يحلب في زمان يختلط به لبن حادث لم يدخل في العقد ، فيصير تسليمه متعذرا وما تعذر تسليمه بطل بيعه .

فأما بيعه في الشاة تبعا لها فيجوز : لأنه وإن كان مجهولا فهو تبع لمعلوم ، والجهالة في البيع لا تمنع صحة العقد كالجهل بأساس البناء .

فصل : فأما ما يحل شربه وبيعه من الألبان ويحرم : فجملة الألبان تنقسم ثلاثة أقسام :

قسم يحل شربه وبيعه ، وهو لبن كل حيوان كان مأكول اللحم ، وقسم لا يحل شربه ولا يجوز بيعه ، وهو لبن كل حيوان كان نجسا في حياته ، وقسم اختلف فيه ، وهو لبن كل حيوان لا يؤكل لحمه وهو طاهر في حياته فلا يحل شربه ، واختلف أصحابنا في نجاسته وتحريم بيعه على وجهين :

أحدهما : أنه نجس كلحمه ولا يجوز بيعه .

[ ص: 333 ] والثاني : أنه طاهر ويجوز بيعه إن كان منتفعا به : لأن طهارة لبن الحيوان معتبر بطهارته في حياته كلبن الآدميات .

فصل : ولبن الآدميات عندنا طاهر ، وشربه حلال ، وبيعه جائز .

وقال أبو القاسم بن يسار الأنماطي من أصحابنا ، هو نجس لا يحل لغير الصغار شربه ، ولا يجوز بيعه . وهو مذهب تفرد به .

وقال أبو حنيفة : هو طاهر وشربه جائز ، غير أن بيعه لا يجوز : استدلالا بأنه غير مبيع في العادة ، فلو جاز في الشرع لاختلفت فيه العادة ، ولأنه مما يستباح بعقد الإجارة فلم يجز بيعه كالمنافع ، ولأن لبن الآدميات وإن كان طاهرا فهو كالدموع والعرق ، فلما لم يجز بيع الدموع والعرق : وإن كان طاهرا لم يجز بيع اللبن وإن كان طاهرا .

ودليلنا رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه . وروي إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه " .

فكان دليله أن ما لم يحرم أكله لم يحرم ثمنه . ولأنه لبن يحل شربه فجاز بيعه كلبن النعم طردا والكلاب عكسا . ولأن لبن الآدميات معد للشرب عرفا وشرعا فجاز بيعه كالماء .

وأما الجواب عن قوله : إنه غير مبيع في العادة ، فهو أنه لا يجوز أن يجعل العادة الجارية حالة على شرع سالف .

وأما قياسهم على بيع المنافع بعلة أنه يستباح بعقد الإجارة ، فعندنا أن بيع المنافع جائز إذا تقدرت بمدة ، وإن خالفونا فيه ، وسيأتي الكلام معهم على أن أصحابنا قد اختلفوا في لبن الحاضنة هل هو المقصود في عقد الإجارة على وجهين :

أحدهما : أنه ليس بمقصود وإنما الكفالة مقصودة ، واللبن تبع ، فعلى هذا لا نسلم بالتعليل .

والثاني : أن اللبن هو المقصود والكفالة تبع ، فعلى هذا إنما يستباح هذا اللبن بعقد الإجارة قبل ظهوره وتلك حال لا يجوز بيعه فيها . وبعد الظهور لا يجوز بعقد الإجارة ، وتلك هي للحالة التي يجوز بيعه فيها ، وأما الدموع والعرق فلما كان محرما الشرب غير منتفع به لم يجز بيعه ، ولبن الآدميات لما جاز شربه وانتفع به ، جاز بيعه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية