الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يجوز شراء الأعمى ، وإن ذاق ما له طعم : لأنه يختلف في الثمن باللون إلا في السلم بالصفة ، وإذا وكل بصيرا يقبض له على الصفة ( قال المزني ) يشبه أن يكون أراد الشافعي بلفظة الأعمى الذي عرف الألوان قبل أن يعمى ، فأما من خلق أعمى فلا معرفة له بالألوان ، فهو في معنى من اشترى ما يعرف طعمه ويجهل لونه ، وهو يفسده فتفهمه ولا تغلظ عليه " .

قال الماوردي : البيوع ضربان : بيع عين ، وبيع صفة ، فأما بيع العين فلا يصح من الأعمى إلا أن يكون بصيرا قد شاهد ما ابتاعه قبل العمى فيصح .

[ ص: 339 ] وقال أبو حنيفة ومالك : يجوز بيع الأعمى وشراؤه : استدلالا بعموم قوله تعالى : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] .

وبأنه إجماع الصحابة : وهو أن العباس بن عبد المطلب ، وابنه عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، كانوا يتبايعون ويشترون فلم ينكر ذلك عليهم أحد من الصحابة . فدل على أنهم مجمعون عليه .

ولأن كل من صح منه التوكيل في البيع صح منه عقد البيع كالبصير .

ولأن كل عقد جاز أن يقبله البصير جاز أن يقبله الضرير كالنكاح .

ودليلنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر ، وعقد الضرير من أعظم الغرر .

ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة ، وبيع الضرير أسوأ حالا منه .

ولأنه بيع مجهول الصفة عند العاقد فوجب أن يكون باطلا ، كما لو قال : بعتك عبدا أو ثوبا . ولأنه بيع عين فوجب أن يكون لفقد الرؤية تأثير فيه كالبصير فيما لم يره .

فأما استدلالهم بعموم الآية فمخصوص بما ذكرنا .

وأما نقلهم الإجماع فغير صحيح : لأنه لا نقل معهم أن هؤلاء باشروا عقد البيع بعد العمى ، ولو نقلوه لم يكن إجماعا ؛ لأن ترك الإنكار لا يكون رضا .

وأما قياسهم على البصير ، فالمعنى في صحة بيعه حصول مشاهدته ، والأعمى مفقود المشاهدة .

وأما قياسهم على النكاح ، فالمعنى فيه أنه لما لم يكن للرؤية تأثير فيه صح من الأعمى ، ولما كان للرؤية تأثير في البيع لم يصح من الأعمى .

فصل : وأما بيع الصفة فهو السلم ، ويصح ذلك من الأعمى بيعا وشراء : لأن السلم عقد على صفة يفتقر إلى الخبر دون النظر ، فاستوى فيه الأعمى والبصير : لاستوائهما في المخبرات ، وإن اختلفا في بيوع الأعيان لاختلافهما في المشاهدات .

فأما قول المزني : يشبه أن يكون أراد الشافعي إلى آخر كلامه ، فكأن المزني يذهب إلى أن الأعمى لا يصح منه عقد السلم إلا أن يكون بصيرا قد عرف الألوان ثم عمي .

فأما الأكمه الذي خلق أعمى ، فلا يصح منه السلم لجهله بالألوان .

وخرج مذهب الشافعي كذلك ، واختلف أصحابنا فكان بعضهم يحمل الأمر على ما قاله المزني . وذهب جمهورهم إلى من عقد السلم في عقد السلم بين الأعمى الذي كان بصيرا ، وبين من خلق أعمى لم يبصر : لأن من خلق أعمى وإن لم يعرف الألوان فهو يعرف أحكامها ، ويعلم اختلاف قيم الأمتعة باختلاف ألوانها ، وأن الحنطة البيضاء أجود من الحنطة [ ص: 340 ] السمراء ، فصار فيها كالبصير وكالأعمى الذي كان بصيرا ، ألا ترى أن البصير لو وصف له متاع لم يره ، ولا عرفه في بلد تبعد عنه ، جاز أن يسلم فيه ، وإن لم يعرف الصفات التي اشتمل العقد عليها إذا علم تفاصيلها باختلافها ، فكذلك سلم الأعمى .

فإذا ثبت أن عقد السلم يصح منه فقبضه عند حلوله لم يصح منه ، لأن القبض يحتاج إلى استيفاء الصفات المستحقة بالعقد ، وذلك مما لا يدرك إلا بالمشاهدة والنظر ، فجرى مجرى عقد البيع على عين لا تصح من الأعمى حتى يوكل فيه بصيرا يعقد عنه أوله .

كذلك لا يصح من الأعمى قبض المسلم فيه ولا إقباضه حتى يوكل من يقبض له إن كان مشتريا أو يقبض عنه إن كان بائعا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية