الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وأحب أن يتجر الوصي بأموال من يلي ولا ضمان عليه : قد اتجر عمر بمال يتيم ، وأبضعت عائشة بأموال بني محمد بن أبي بكر في البحر ، وهم أيتام تليهم " .

قال الماوردي : وهذا كما قال .

يجوز لولي اليتيم أن يتجر له بماله على الشروط المعتبرة فيه ، وهو قول عامة الفقهاء .

وقال ابن أبي ليلى : لا يجوز لوليه أن يتجر بماله استدلالا بقوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ الأنعام : 152 ] فكان النهي عموما والاستثناء بالأحسن في حفظه خصوصا .

ولأن التجارة بالمال خطر وطلب الربح به متوهم ، فلم يجز أن يتعجل خطرا متيقنا لأجل ربح متوهم .

ولأن الولي مندوب لحفظ ماله كالمودع المندوب لحفظ ما أودع ، فلما لم يجز للمودع أن يتجر بالوديعة طلبا لربح يعود على مالكها فلم يجز للولي أن يتجر بمال اليتيم طلبا لربح يعود عليه .

وهذا خطأ لقوله تعالى : فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل [ البقرة : 282 ] .

والولي إنما يلزمه أن يملي ما حدث من دين ، وذلك في الغالب إنما يكون عن بيع ، وهو لا يصح منه فيتولاه ، فدل على أن الولي هو الذي تولاه .

وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ابتغوا في أموال اليتامى : لا تأكلها الزكاة " . وروي : " اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة " .

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتجر بمال يتيم كان يلي عليه . وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها أبضعت بأموال بني أخيها محمد بن أبي بكر في البحر وهم أيتام تليهم .

[ ص: 362 ] وليس لهذين في الصحابة مخالف ، فكان إجماعا .

ولأن الولي يقوم في مال اليتيم مقام البالغ الرشيد في مال نفسه ، فلما كان من أفعال الرشيد أن يتجر بماله ، كان الولي في مال اليتيم مندوبا إلى أن يتجر بماله . ولأن الولي مندوب إلى أن يثمر ماله من يلي عليه ، والتجارة من أقوى الأسباب في تثمير المال فكان الولي بها أولى .

فأما قوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ الأنعام : 152 ] فقد اختلف المفسرون في تأويلها على ثلاثة أقاويل : فمذهب ابن أبي ليلى خارج منها ، ومذهبنا داخل فيها .

أحدها : أن التي هي أحسن التجارة ، وهذا قول مجاهد .

والثاني : أن يتجر له ولا يأخذ من الربح شيئا ، وهذا قول الضحاك .

والثالث : أن التي هي أحسن أن يأكل بالمعروف إن افتقر ، ويمسك عن الأكل إن استغنى ، وهذا قول ابن زيد .

وأما الجواب عن قوله : إن التجارة خطر والربح متوهم ، فهو أن يقال : إن سلامة المال في أحوال السلامة أغلب ، وظهور الربح مع استقامة الأمور أظهر ، وإذا كان الأمر في هذين غالبا جاز العمل عليه لعدم اليقين فيه .

وأما قولهم : إنه كالمودع في اختصاصه بالحفظ ، فخطأ : لأن المودع نائب عن جائز الأمر فكان تصرفه موقوفا على إذنه ، والولي نائب عام التصرف ، ألا ترى أن له الإنفاق عليه وشراء العقار له .

فصل : فإذا ثبت جواز التجارة بماله فإنما يتجر بما كان ناضا من غير أن يبيع عقارا ولا أرضا ، فأول ما ينبغي للولي أن يفعل بالناض من ماله بعد كسوته ونفقته أن يعمر ما يحتاج إلى العمارة من عقاره أو ضياعه إذا كان في عمارتها حفظ الأصل . وليس لما يبني به العقار من الآلة صفة محددة ، وكان بعض أصحابنا المتأخرين يحد ذلك فيقول : يجب أن يبني بالآجر والطين ، ولا يبنيه بالآجر والجص ولا باللبن والطين .

قال : لأن للآجر والطين مرجوعا إن هدم وبقاء إن ترك ، والجص في الآجر لا مرجوع له ، وإذا انهدم بعضه خرب جميعه ، واللبن والطين قليل البقاء . وليس لهذا التحديد وجه صحيح : لأن لكل قوم عرفا ولكل بلد عادة ، فمن البلاد ما لا يستحكم البناء فيه إلا بالحجارة والنورة ، ومنها بالآجر والجص ، ومنها بالآجر والطين ، ومنها باللبن والطين ، ومنها بالخشب الوثيق .

[ ص: 363 ] فإذا بناه الولي على أحكم ما جرت به عادة ذلك البلد ؛ أجزأه .

ثم ينظر في الباقي من ماله ، فإن كان لو ابتاع له عقارا أو أرضا عاد عليه من فاضل غلته قدر كفايته فابتاع العقار والأرضين بالمال أولى من التجارة به ، لأنه أحفظ أصلا وأقل خطرا مع استواء العادة فيهما ، وإن كان لو ابتاع به عقارا لم يعد عليه من فاضل غلته قدر كفايته جاز أن يتجر له بالمال على شروط ثلاثة : وذلك أن يكون الزمان أمينا ، والسلطان عادلا ، والتجارة مربحة . فإن كان الزمان مخوفا لم يتجر بالمال لما فيه من التغرير به ، وإن كان السلطان جائرا لم يجز أن يتجر به : لأنه ربما طمع فيه بجوره ، وإن كانت التجارة غير مربحة لم يجز أن يتجر بالمال لعدم الفضل المقصود بالتجارة . فإذا اجتمعت هذه الأحوال من أمن الزمان وعدل السلطان وأرباح المتاجر ، جاز للولي أن يتجر له بماله على شروط معتبرة في الشراء وشروط معتبرة في البيع .

فأما الشروط المعتبرة في الشراء فأربعة :

أحدها : أن يشتري ما لا يخاف عليه الفساد وإن بقي : لأن ما يسرع فساده لا يتحفظ ثمنه وأن يقع عند خوف فساده وكس . وأموال اليتامى يجب أن تكون محفوظة الأصل موجودة النماء .

والثاني : أن يكون الربح فيه غالبا ، إما بظهوره في الحال وإما لغلبة الظن به في ثاني حال ، فإن لم يغلب في الظن ظهور الربح فيه لم يكن لليتيم حظ في صرف ماله فيه .

والثالث : أن يكون الشراء بالنقد لا بالنساء : لأن شراء النقد أرخص والربح فيه أظهر ، لأن في النساء إلزام دين لا يؤمن معه تلف المال وبقاء الدين .

فهذه الشروط الثلاثة هي من حق الولاية وصحة العقد جميعا . فإن أخل الولي بها أو بأحدها لم يلزم الشراء في مال اليتيم ، وكان باطلا إن عقد بعين المال ويلزم الولي إن لم يعقد بعين المال .

والرابع : أن لا يدفع الثمن إلا بعد قبض ما اشترى ما لم يقض عليه بدفع الثمن ناضا : لأن في دفع الثمن قبل قبض المبيع تغريرا ، وهذا شرط في حق الولاية لا في صحة العقد ، فإن أخل به الولي صح العقد وكان ضامنا لما عجل من الثمن حتى يقبض المبيع فيسقط عنه بقبضه ضمان الثمن .

فصل : وأما الشروط المعتبرة في البيع فأربعة :

أحدها : أن يكون البيع عند انتهاء الثمن وكمال الربح من غير أن يغلب في الظن حدوث زيادة فيه لما في بيعه قبل كمال الربح من تفويت باقيه . فإن باعه مع غلبة الظن في حدوث الزيادة في ثمنه لم يجز لعدم الحظ لليتيم في بيعه .

والثاني : الاجتهاد في توفير الثمن حسب الإمكان . فإن باعه بثمن هو قادر على الزيادة [ ص: 364 ] فيه لم يجز ، سواء كان بيعه بثمن المثل أو أقل أو أكثر : لأن ترك الزيادة مع القدرة عليها عدول عن الحظ لليتيم .

والثالث : أن يكون البيع بالنقد دون النساء : لأن بيع النقد أحفظ للمال مع اتصال التجارة به ، إلا أن يكون النساء أحظ له في بعض الأحوال فيجوز أن يبيع بالنسيئة بخمسة شروط :

أحدها : زيادة الثمن على سعر النقد .

والثاني : قرب الأجل .

والثالث : ثقة المشتري ويساره .

والرابع : الإشهاد عليه .

والخامس : الرهن فيه على ما سنوضح من أحكام ذلك في كتاب الرهن .

والرابع : أن لا يدفع ما باعه نقدا إلا بعد قبض ثمنه ما لم يقض عليه بدفعه ناضا .

وهذا شرط في حق الولاية لا في صحة العقد ، فإن أقبض المبيع كان ضامنا لثمنه لا للمبيع في نفسه : لأن المبيع من ملك المشتري ، وقد سقط ضمانه عن اليتيم بالقبض ، وإنما حقه في الثمن ، فيصير الولي بدفع ذلك ضامنا لمال اليتيم الذي حصل التفريط بتأخير قبضه .

ولا يجوز أن يسافر بماله برا ولا بحرا لما في السفر من التغرير بالمال . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن المسافر وماله على قلت إلا ما وقى الله " أي : على خطر .

فإن سافر بماله ضمن ألا أن تكون المسافة قريبة والطريق آمنا .

فإن قيل : فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أبضعت بأموال بني أخيها في البحر ، ففيه جوابان :

أحدهما : أنه كان في ساحل بحر الجار بحيث يقرب من المدينة ، وكان غالب ذلك السلامة .

والثاني : أنه يجوز أن تكون عائشة ضمنت المال بالغرر إن تلف مبالغة في طلب الربح لبني أخيها .

فإذا اتجر الولي بمال اليتيم على الشروط المذكورة في البيع والشراء ، فهل له أجرة مثله بحق عمله أم لا ؟ ينظر فيه : فإن لم يكن ذلك قاطعا له عن عمله ولا مانعا من التصرف في شغله وكان واجدا مكتفيا فلا أجرة له ، وإن كان يقطعه ذلك عن عمله ويمنعه من كسبه ففيه قولان :

[ ص: 365 ] أحدهما : لا أجرة له : لأنه عمل ذلك مختارا عن غير عقد لازم ولا عن عوض مبذول فصار متطوعا به .

والقول الثاني : له الأجرة : لأن في المنع منها ذريعة إلى إهمال الأيتام ، وترك مراعاتهم والتجارة بأموالهم .

وقد قال المفسرون في تأويل قوله تعالى في أموال اليتامى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف [ النساء : 6 ] أن السرف هو أخذها على غير ما أباح الله تعالى .

وقوله : وبدارا أن يكبروا قال ابن عباس : هو أن يأكل مال اليتيم ببادر أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله ، وقوله : ومن كان غنيا فليستعفف يعني بمال نفسه عن مال اليتيم وقوله : ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف اختلف المفسرون فيه على أربعة أقاويل : أحدها : أن يستقرض من ماله إذا احتاج ثم يقضي إذا وجد ، وهذا قول عمر ، وابن عباس ، وأحد قولي الشافعي .

والثاني : أنه يأخذ إذا كان محتاجا أجرة معلومة على قدر خدمته . وهذا قول عطاء ، والقول الثاني للشافعي .

والثالث : أنه يأكل ما سد الجوعة ويلبس ما وارى العورة ولا قضاء ، وهذا قول إبراهيم ، ومكحول ، وقتادة .

وروى سعد ، عن قتادة ، أن عم ثابت بن رفاعة ، وثابت يومئذ يتيم في حجره ، أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ؟ قال : أن تأكل بالمعروف من غير أن تقي مالك بماله ولا تتخذ من ماله وفرا . والرابع : أن يأكل من ثمره ويشرب من لبن ماشيته ما يقيانه من غير تعرض لما سوى ذلك من فضة أو ذهب . وهذا قول أبي العالية والشعبي .

روى القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس ، وقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا فما يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتفرط عليها يوم وردها ، فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب .

التالي السابق


الخدمات العلمية