مسألة : قال  
الشافعي   رحمه الله تعالى : " وأحب أن  
يتجر الوصي بأموال من يلي  ولا ضمان عليه :  قد اتجر  
عمر   بمال يتيم ،  وأبضعت  
عائشة  بأموال  
بني محمد بن أبي بكر   في البحر ، وهم أيتام تليهم     " .  
قال  
الماوردي      : وهذا كما قال .  
يجوز لولي اليتيم أن يتجر له بماله على  
الشروط المعتبرة  فيه ، وهو قول عامة الفقهاء .  
وقال  
ابن أبي ليلى      : لا يجوز لوليه أن يتجر بماله استدلالا بقوله تعالى :  
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن     [ الأنعام : 152 ] فكان النهي عموما والاستثناء بالأحسن في حفظه خصوصا .  
ولأن التجارة بالمال خطر وطلب الربح به متوهم ، فلم يجز أن يتعجل خطرا متيقنا لأجل ربح متوهم .  
ولأن الولي مندوب لحفظ ماله كالمودع المندوب لحفظ ما أودع ، فلما لم يجز للمودع أن يتجر بالوديعة طلبا لربح يعود على مالكها فلم يجز للولي أن يتجر بمال اليتيم طلبا لربح يعود عليه .  
وهذا خطأ لقوله تعالى :  
فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل     [ البقرة : 282 ] .  
والولي إنما يلزمه أن يملي ما حدث من دين ، وذلك في الغالب إنما يكون عن بيع ، وهو لا يصح منه فيتولاه ، فدل على أن الولي هو الذي تولاه .  
وروى  
عمرو بن شعيب ،   عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "  
ابتغوا في أموال اليتامى : لا تأكلها الزكاة     " . وروي : "  
اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة     " .  
وروي  أن  
عمر بن الخطاب   رضي الله عنه اتجر بمال يتيم كان يلي عليه     .  وروي عن  
عائشة  رضي الله عنها أنها أبضعت بأموال بني أخيها  
محمد بن أبي بكر   في البحر وهم أيتام تليهم .   
[ ص: 362 ] وليس لهذين في الصحابة مخالف ، فكان إجماعا .  
ولأن الولي يقوم في مال اليتيم مقام البالغ الرشيد في مال نفسه ، فلما كان من أفعال الرشيد أن يتجر بماله ، كان الولي في مال اليتيم مندوبا إلى أن يتجر بماله . ولأن الولي مندوب إلى أن يثمر ماله من يلي عليه ، والتجارة من أقوى الأسباب في تثمير المال فكان الولي بها أولى .  
فأما  
قوله تعالى :  ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن     [ الأنعام : 152 ] فقد اختلف المفسرون في تأويلها على ثلاثة أقاويل : فمذهب  
ابن أبي ليلى   خارج منها ، ومذهبنا داخل فيها .  
أحدها : أن التي هي أحسن التجارة ، وهذا قول  
مجاهد      .  
والثاني : أن يتجر له ولا يأخذ من الربح شيئا ، وهذا قول  
الضحاك      .  
والثالث : أن التي هي أحسن أن يأكل بالمعروف إن افتقر ، ويمسك عن الأكل إن استغنى ، وهذا قول  
ابن زيد .   
وأما الجواب عن قوله : إن التجارة خطر والربح متوهم ، فهو أن يقال : إن سلامة المال في أحوال السلامة أغلب ، وظهور الربح مع استقامة الأمور أظهر ، وإذا كان الأمر في هذين غالبا جاز العمل عليه لعدم اليقين فيه .  
وأما قولهم : إنه كالمودع في اختصاصه بالحفظ ، فخطأ : لأن المودع نائب عن جائز الأمر فكان تصرفه موقوفا على إذنه ، والولي نائب عام التصرف ، ألا ترى أن له الإنفاق عليه وشراء العقار له .  
فصل : فإذا ثبت جواز التجارة بماله فإنما يتجر بما كان ناضا من غير أن يبيع عقارا ولا أرضا ، فأول ما ينبغي للولي أن يفعل بالناض من ماله بعد كسوته ونفقته أن يعمر ما يحتاج إلى العمارة من عقاره أو ضياعه إذا كان في عمارتها حفظ الأصل . وليس لما يبني به العقار من الآلة صفة محددة ، وكان بعض أصحابنا المتأخرين يحد ذلك فيقول : يجب أن يبني بالآجر والطين ، ولا يبنيه بالآجر والجص ولا باللبن والطين .  
قال : لأن للآجر والطين مرجوعا إن هدم وبقاء إن ترك ، والجص في الآجر لا مرجوع له ، وإذا انهدم بعضه خرب جميعه ، واللبن والطين قليل البقاء . وليس لهذا التحديد وجه صحيح : لأن لكل قوم عرفا ولكل بلد عادة ، فمن البلاد ما لا يستحكم البناء فيه إلا بالحجارة والنورة ، ومنها بالآجر والجص ، ومنها بالآجر والطين ، ومنها باللبن والطين ، ومنها بالخشب الوثيق .   
[ ص: 363 ] فإذا بناه الولي على أحكم ما جرت به عادة ذلك البلد ؛ أجزأه .  
ثم ينظر في الباقي من ماله ، فإن كان لو ابتاع له عقارا أو أرضا عاد عليه من فاضل غلته قدر كفايته فابتاع العقار والأرضين بالمال أولى من التجارة به ، لأنه أحفظ أصلا وأقل خطرا مع استواء العادة فيهما ، وإن كان لو ابتاع به عقارا لم يعد عليه من فاضل غلته قدر كفايته جاز أن يتجر له بالمال على شروط ثلاثة : وذلك أن يكون الزمان أمينا ، والسلطان عادلا ، والتجارة مربحة . فإن كان الزمان مخوفا لم يتجر بالمال لما فيه من التغرير به ، وإن كان السلطان جائرا لم يجز أن يتجر به : لأنه ربما طمع فيه بجوره ، وإن كانت التجارة غير مربحة لم يجز أن يتجر بالمال لعدم الفضل المقصود بالتجارة . فإذا اجتمعت هذه الأحوال من أمن الزمان وعدل السلطان وأرباح المتاجر ، جاز للولي أن يتجر له بماله على شروط معتبرة في الشراء وشروط معتبرة في البيع .  
فأما  
الشروط المعتبرة في الشراء  فأربعة :  
أحدها : أن يشتري ما لا يخاف عليه الفساد وإن بقي : لأن ما يسرع فساده لا يتحفظ ثمنه وأن يقع عند خوف فساده وكس . وأموال اليتامى يجب أن تكون محفوظة الأصل موجودة النماء .  
والثاني : أن يكون الربح فيه غالبا ، إما بظهوره في الحال وإما لغلبة الظن به في ثاني حال ، فإن لم يغلب في الظن ظهور الربح فيه لم يكن لليتيم حظ في صرف ماله فيه .  
والثالث : أن يكون الشراء بالنقد لا بالنساء : لأن شراء النقد أرخص والربح فيه أظهر ، لأن في النساء إلزام دين لا يؤمن معه تلف المال وبقاء الدين .  
فهذه الشروط الثلاثة هي من حق الولاية وصحة العقد جميعا . فإن أخل الولي بها أو بأحدها لم يلزم الشراء في مال اليتيم ، وكان باطلا إن عقد بعين المال ويلزم الولي إن لم يعقد بعين المال .  
والرابع : أن لا يدفع الثمن إلا بعد قبض ما اشترى ما لم يقض عليه بدفع الثمن ناضا : لأن في دفع الثمن قبل قبض المبيع تغريرا ، وهذا شرط في حق الولاية لا في صحة العقد ، فإن أخل به الولي صح العقد وكان ضامنا لما عجل من الثمن حتى يقبض المبيع فيسقط عنه بقبضه ضمان الثمن .  
فصل : وأما  
الشروط المعتبرة في البيع  فأربعة :  
أحدها : أن يكون البيع عند انتهاء الثمن وكمال الربح من غير أن يغلب في الظن حدوث زيادة فيه لما في بيعه قبل كمال الربح من تفويت باقيه . فإن باعه مع غلبة الظن في حدوث الزيادة في ثمنه لم يجز لعدم الحظ لليتيم في بيعه .  
والثاني : الاجتهاد في توفير الثمن حسب الإمكان . فإن باعه بثمن هو قادر على الزيادة      
[ ص: 364 ] فيه لم يجز ، سواء كان بيعه بثمن المثل أو أقل أو أكثر : لأن ترك الزيادة مع القدرة عليها عدول عن الحظ لليتيم .  
والثالث : أن يكون البيع بالنقد دون النساء : لأن بيع النقد أحفظ للمال مع اتصال التجارة به ، إلا أن يكون النساء أحظ له في بعض الأحوال فيجوز أن يبيع بالنسيئة بخمسة شروط :  
أحدها : زيادة الثمن على سعر النقد .  
والثاني : قرب الأجل .  
والثالث : ثقة المشتري ويساره .  
والرابع : الإشهاد عليه .  
والخامس : الرهن فيه على ما سنوضح من أحكام ذلك في كتاب الرهن .  
والرابع : أن لا يدفع ما باعه نقدا إلا بعد قبض ثمنه ما لم يقض عليه بدفعه ناضا .  
وهذا شرط في حق الولاية لا في صحة العقد ، فإن أقبض المبيع كان ضامنا لثمنه لا للمبيع في نفسه : لأن المبيع من ملك المشتري ، وقد سقط ضمانه عن اليتيم بالقبض ، وإنما حقه في الثمن ، فيصير الولي بدفع ذلك ضامنا لمال اليتيم الذي حصل التفريط بتأخير قبضه .  
ولا يجوز أن  
يسافر بماله برا  ولا بحرا لما في السفر من التغرير بالمال . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "  
إن المسافر وماله على قلت إلا ما وقى الله     " أي : على خطر .  
فإن سافر بماله ضمن ألا أن تكون المسافة قريبة والطريق آمنا .  
فإن قيل : فقد روي  عن  
عائشة  رضي الله عنها أنها أبضعت بأموال بني أخيها في البحر ،  ففيه جوابان :  
أحدهما : أنه كان في ساحل بحر الجار بحيث يقرب من المدينة ، وكان غالب ذلك السلامة .  
والثاني : أنه يجوز أن تكون  
عائشة  ضمنت المال بالغرر إن تلف مبالغة في طلب الربح لبني أخيها .  
فإذا اتجر الولي بمال اليتيم على الشروط المذكورة في البيع والشراء ، فهل له أجرة مثله بحق عمله أم لا ؟  ينظر فيه : فإن لم يكن ذلك قاطعا له عن عمله ولا مانعا من التصرف في شغله وكان واجدا مكتفيا فلا أجرة له ، وإن كان يقطعه ذلك عن عمله ويمنعه من كسبه ففيه قولان :   
[ ص: 365 ] أحدهما : لا أجرة له : لأنه عمل ذلك مختارا عن غير عقد لازم ولا عن عوض مبذول فصار متطوعا به .  
والقول الثاني : له الأجرة : لأن في المنع منها ذريعة إلى إهمال الأيتام ، وترك مراعاتهم والتجارة بأموالهم .  
وقد قال المفسرون في  
تأويل قوله تعالى في أموال اليتامى :  ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف     [ النساء : 6 ] أن السرف هو أخذها على غير ما أباح الله تعالى .  
وقوله :  
وبدارا أن يكبروا  قال  
ابن عباس      : هو أن يأكل مال اليتيم ببادر أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله ، وقوله :  
ومن كان غنيا فليستعفف  يعني بمال نفسه عن مال اليتيم وقوله :  
ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف  اختلف المفسرون فيه على أربعة أقاويل : أحدها : أن يستقرض من ماله إذا احتاج ثم يقضي إذا وجد ، وهذا قول  
عمر ،   وابن عباس ،   وأحد قولي  
الشافعي      .  
والثاني : أنه يأخذ إذا كان محتاجا أجرة معلومة على قدر خدمته . وهذا قول  
عطاء ،   والقول الثاني  
للشافعي      .  
والثالث : أنه يأكل ما سد الجوعة ويلبس ما وارى العورة ولا قضاء ، وهذا قول  
إبراهيم ،   ومكحول ،   وقتادة      .  
وروى  
سعد ،   عن  
قتادة ،   أن عم  
ثابت بن رفاعة ،   وثابت   يومئذ يتيم في حجره ،  
أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ؟ قال : أن تأكل بالمعروف من غير أن تقي مالك بماله ولا تتخذ من ماله وفرا .  والرابع : أن يأكل من ثمره ويشرب من لبن ماشيته ما يقيانه من غير تعرض لما سوى ذلك من فضة أو ذهب . وهذا قول  
أبي العالية   والشعبي      .  
روى  
القاسم بن محمد   قال : جاء أعرابي  إلى  
ابن عباس ،   وقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا فما يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتفرط عليها يوم وردها ، فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب .