الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 368 ] باب تصرف الرقيق

قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وإذا ادان العبد بغير إذن سيده لم يلزمه ما كان عبدا ومتى عتق اتبع به " .

قال الماوردي : وهذا كما قال : حجر الرق يمنع من عقود البيع بغير إذن سيده وإن صح تأديه .

وجملة أحوال المحجور عليهم في أشربتهم أنها تنقسم أربعة أقسام :

قسم يصح منهم الشراء مع الحجر بإذن وبغير إذن ، وقسم لا يصح منهم الشراء مع الحجر لا بإذن ولا بغير إذن ، وقسم لا يصح منهم الشراء بغير إذن ، واختلف في صحته بإذن ، وقسم يصح منهم الشراء بإذن ، واختلف في صحته بغير إذن .

فأما القسم الأول : وهو من يصح منه الشراء مع الحجر بإذن وغير إذن ، فهو المحجور عليه بالفلس يصح شراؤه بغير إذن غرمائه : لأن الحجر عليه مستحق في ماله لأجل غرمائه فيمنع من دفع الثمن منه لتعلق حق غرمائه به ، ولا يفسخ عليه العقد : لأنه لم يتعلق به للغرماء حق ، ويكون الثمن في ذمته إذا أيسر بعد فك حجره دفع منه . وكذا المكاتب وإن لم يكن مطلق التصرف ، فإن عقوده ماضية ما لم يكن فيها محاباة ، وله دفع الثمن مما في يده وليس للسيد منعه ، ويكون من عقد المفلس والمكاتب مع صحتهما : قد كان أحدهما أن عقد المفلس ماض مع المحاباة ، وعقد المكاتب مردود في المحاباة .

والثاني : أن المفلس يمنع من دفع الثمن مما في يده ، والمكاتب لا يمنع من دفع الثمن في يده . فهذا القسم الأول .

وأما القسم الثاني : وهو من لا يصح منه الشراء بإذن ولا بغير إذن فهو المجنون والصبي ، أما المجنون فشراؤه باطل ولا يقف على إجازة الولي إجماعا ، وأما الصبي فشراؤه باطل عندنا ولا يقف على إجازة الولي .

وقال أبو حنيفة : عقوده موقوفة على إجازة الولي : استدلالا بأنه عاقل مميز ، فجاز أن يصح عقده مع بقاء الحجر عليه كالعبد وهذا غلط .

[ ص: 369 ] ودليلنا رواية علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاثة ؛ عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ " .

ورفع القلم عنه يمنع من إجازة عقده ؛ لما في إجازته من إجراء القلم عليه ، ولأنه غير مكلف ، فوجب أن لا يصح عقده كالمجنون ، ولأن في الولاية على الصبي حقين :

أحدهما : تولي عقوده .

والثاني : حفظ ماله . فلما لم يجز للولي أن يرد إليه حفظ ماله لم يجز أن يرد إليه تولي عقوده .

فأما القياس على العبد فلا يصح من وجهين :

أحدهما : أن العبد لما كان مكلفا صح عقده ، والصبي لما لم يكن مكلفا لم يصح عقده .

والثاني : أن الحجر على العبد حق لسيده فجاز للسيد إسقاط حقه بالإذن له ، والحجر على الصبي حق للولي فلم يجز إسقاطه بالإذن له . فثبت أن عقود الصبي باطلة بإذن وليه وغير إذنه .

وأما القسم الثالث : وهو من لا يصح منه الشراء بغير إذن ، واختلف أصحابنا في صحته بإذن وهو المحجور عليه بالسفه إن عقد بيعا أو شراء بغير إذن وليه ؛ كان باطلا : لأنه بالحجر ممنوع التصرف منعا عاما ، وفي صحة العقد منه رفع الحجر عنه ، فإن اشترى بإذن وليه ففيه لأصحابنا وجهان :

أحدهما : باطل كالصبي .

والثاني : جائز كالعبد ، ولكن لو عين له الولي ما يشتريه وقدر له الثمن ، فعقد العقد على ذلك بالثمن المأذون فيه ؛ صح عقده وجها واحدا بخلاف التفويض : لأنه عقد من مكلف قد صرف عن الاجتهاد بالتقدير ، فلم يكن للسفه فيه تأثير .

وأما القسم الرابع : وهو من يصح منه الشراء بإذن ، واختلف في صحته بغير إذن ، فهو العبد يصح شراؤه بإذن سيده : لأنه ممنوع في حقه ، فإن اشترى بغير إذن سيده بثمن في ذمته ، ففي صحة العقد وجهان :

أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي ، وأبي سعيد الإصطخري أن شراءه باطل : لأنه ممنوع من عقد البيع بغير إذن سيده ، كما هو ممنوع من النكاح بغير إذن سيده ، ثم ثبت أنه لو عقد نكاحا بغير إذن سيده كان باطلا ، وجب إذا عقد بيعا بغير إذنه أن يكون باطلا .

والوجه الثاني : وهو قول جمهور أصحابنا أن الشراء جائز : لأن الحجر عليه لحق سيده ، [ ص: 370 ] وأنه يملك ما بيده يجري مجرى المفلس المحجور عليه في حق الغرماء ، ثم كان عقد المفلس جائزا ، فكذلك العبد ، وخالف النكاح من وجهين :

أحدهما : أن النكاح موكس لثمنه فمنع منه بغير إذن سيده : لما فيه من الإضرار به ، وليس كذلك الشراء . ( وكذا ) الحكم في ضمانه واقتراضه إذا كان عن غير إذن سيده فعلى وجهين : أحدهما : باطل فيسقط الضمان ويؤمر برد القرض .

والثاني : جائز فيصح الضمان ولا يلزمه رد القرض ، فإن قلنا بصحة عقوده كان ضمانه لازما في ذمته يوجه به بعد عتقه ويساره ، وقد استفاد ما ابتاعه واقترضه ، وكان ضامنا لثمن ما ابتاع ، ومثل ما اقترض في ذمته يؤديه بعد عتقه ويساره ، وللسيد أخذ ذلك من يده : لأن ما استفاده العبد ملك لسيده .

فلو كان البائع لا يعلم برق العبد فأراد الفسخ حين علم برقه لما يلحقه من تأخير الثمن إلى حين عتقه ؛ احتمل وجهين :

أحدهما : له الفسخ : لأنه أسوأ حالا من المفلس .

والثاني : ليس له الفسخ : لأنه قد صار في ملك السيد فلم يكن له الفسخ برقه لزوال ملكه عنه .

فإن قلنا ببطلان عقوده كان ضمانه باطلا وابتياعه فاسدا واقتراضه مردودا ، وعلى العبد رد ما ابتاعه واقترضه وليس للسيد أن يأخذه من يده ، وإن تلف من يد العبد كان مضمونا عليه بالقيمة لا بالثمن في ذمته لا في رقبته ، يؤديه إذا أيسر بعد عتقه : لأنه مقبوض على وجه المعاوضة فلم يجز أن يتعلق بالرقبة .

فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا واستدان العبد دينا لم يخل من أن يكون مأذونا له في التجارة ، أو غير مأذون له . فإن كان غير مأذون له في التجارة كانت الديون الحادثة عن معاملاته ثابتة في ذمته لا في رقبته ولا فيما بيده ، وللسيد أن يتصرف فيما بيده من ماله كيف شاء ، ولا يجوز للعبد أن يقضي ديونه من شيء مما في يده ، فإن فعل وقدر السيد على استرجاعه ممن صار إليه فله ذلك ، وإن لم يقدر فلا شيء له على عبده من غرم ما استهلك من ماله : لأن السيد لا يثبت له في ذمة عبده ولا في رقبته مال .

وإن كان العبد مأذونا له في التجارة قضى ديون معاملاته من المال الذي بيده : لأن إذنه للتجارة إذن به وبموجبه ، وليس للسيد أن يسترجع ما بيده قبل قضاء ديونه لاستحقاقه فيها إلا أن يضمن السيد ذلك في ذمته ، فيجوز له بعد الضمان أن يسترجع . فلو كانت ديونه ألفا وبيده ألفان فأراد السيد أن يأخذ الألف الفاضلة من دينه لم يجز لأمرين .

[ ص: 371 ] أحدهما : أنه كالمرهون بدينه ، وليس من حكم الرهن أن يأخذ منه ما فضل عن الدين .

والثاني : أنه يجوز أن يهلك أحد الألفين قبل قضاء الدين فيلزم قضاؤه من الألف الأخرى .

فأما إن عجز ما بيد العبد عن ديونه ، إما لوضيعة أو جائحة كان ما في ذمته في ذمته يؤديه إذا أيسر بعد عتقه ، ولا يتعلق برقبته ولا بذمة سيده .

وقال أبو حنيفة : تكون ديونه في رقبته يباع فيها إلا أن يفديه السيد منها : استدلالا بأنه دين تعلق بعبده عن إذنه فوجب أن يتعلق برقبته دون ذمته كالرهن ، قال : ولأن السيد يملك رقبة عبده وكسبه ، فلما كان إذنه بالتجارة ، فوجب تعلق دينه بكسب التجارة ؛ جاز أن يتعلق برقبته إذا عدم كسب التجارة : لأن الإذن لما أوجب تعلق الدين بأحد الملكين أوجب تعلقه بالملك الآخر . وهذا غلط .

ودليلنا : أن كل حق لزم برضى مستحقه أوجب تعلقه بالذمة دون الرقبة ، كما لو أدان بغير إذن السيد ، ولأن ما يلزم العبد من الديون ضربان : ضرب لزم برضى مستحقه كأثمان المبيعات ، وضرب لزم بغير رضى مستحقه كقيم المتلفات . فلما ثبت أن ما لزم بغير رضى مستحقه كان محله من المأذون وغير المأذون واحدا وهو الرقبة ، وجب أن يكون ما لزمه برضى مستحقه أن يكون محله من المأذون وغير المأذون واحدا وهو الذمة ، ولأن إذن السيد لعبده بالتجارة لا يخلو من أحد أمرين :

إما أن يأذن له أن يتجر بما دفعه إليه من مال ، أو إنما حصل له من جاه ، وأي الأمرين كان فالرقبة خارجة عن إذنه فلم يجز أن يتعلق بدينه . وأما قياسهم على الرهن فلا يصح : لأن الرهن عقد على الرقبة ، وكذلك لم يجز أن يدخل عليه مثله .

وأما استدلالهم بالكسب فالكسب لم يملكه السيد إلا بعد قضاء ديونه ، وقبل قضائها لم يدخل في ملكه ، فجاز أن تتعلق ديونه بكسبه ، وليس كذلك الرقبة : لأنها ملك لسيده في الحالين ، فلم يجز أن تتعلق بها ديونه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية