الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : حكم بيع النجاسات

فأما النجاسات فضربان :

أحدهما : ما كانت عينه نجسة .

والثاني : ما طرأت عليه النجاسة وجاورته .

فأما ما كان نجس العين كالخمر والميتة والدم والأرواث والأبوال ، فلا يجوز بيع شيء منها .

وجوز أبو حنيفة بيع جلد الميتة ، وقد مضى الكلام معه في كتاب الطهارة ، وجوز أيضا بيع السرجين وروث ما يؤكل لحمه : استدلالا بأنه فعل الأمصار في سالف الأعصار من غير إنكار ، فلولا إباحته باتفاقهم لأنكروه أو بعضهم .

ولأن ما جاز الانتفاع به من غير ضرورة جاز بيعه كسائر الأموال ، ودليلنا رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قاتل الله اليهود ثلاثا ، إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها ، وإن الله تعالى إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه " .

ولأنه نجس العين فوجب أن لا يجوز بيعه كالميتة والخنزير : ولأنه رجيع نجس ، فوجب أن لا يجوز بيعه كالعذرة .

[ ص: 384 ] وأما استدلالهم بأنه فعل أهل الأمصار من غير مانع ولا إنكار ، فهذا إنما يفعله جهال الناس وأرذالهم ، فلم يكن فعلهم حجة على من سواهم .

على أن ما ظهر من الأفعال لا يدل عند أبي حنيفة على الاعتقاد : لأن جميع الناس في جميع الأعصار يعطون أجرة المعلم ، يفعله العالم الفاضل ، ويأخذه العالم الفاضل ، وليس ذلك عنده حجة في جواز أخذ أجرة التعليم ، فكيف يجعل هاهنا فعل جهال الناس حجة علينا . وأما قياسه بعلة أنه منتفع به فمنتقض بالحر ، والوقف ، وأم الولد ، ثم المعنى في الأصل أنه طاهر منتفع به . فهذا الكلام فيما كان نجس العين .

وأما ما طرأت عليه النجاسة وجاورته فنجس بها ؛ فهو على ثلاثة أضرب :

أحدها : ضرب يصح غسله ، وضرب لا يصح غسله ، وضرب مختلف في صحة غسله .

فأما ما يصح غسله كالثياب والأواني والحبوب وجميع النجاسات التي لا تذوب بملاقاة الماء فغسله من النجاسة ممكن ، وبيعه قبل غسله جائز : لأن العين طاهرة ، والانتفاع بها ممكن ، وإزالة ما جاورها من النجاسة متأت .

وأما ما لا يصح غسله كالسكر والعسل والدهن وسائر ما إذا لاقاه الماء ذاب فيه ، والخل ، فغسله لا يمكن وبيعه مع نجاسته باطل ، ويكون حكمه في بطلان البيع حكم ما كان نجس العين .

وأما المختلف في صحة غسله : فالأدهان كلها اختلفوا في جواز غسلها .

فمذهب الشافعي أن غسلها لا يجوز ولا يمكن ، وبيعها إذا نجست باطل .

وقال أبو حنيفة : غسلها ممكن ، وبيعها قبل الغسل جائز : استدلالا بأنها نجاسة مجاورة يمكن إزالتها فجاز بيعها معها كالثوب .

ولأنه مائع يجوز الاستصباح به فجاز بيعه كالدهن الطاهر .

ودليلنا حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال : " وإن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه .

وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن ، فقال : إن كان جامدا فألقوها وما حولها ، وإن كان ذائبا فأريقوه .

فلو جاز بيعه لمنع من إراقته فصار كالخمر المأمور بإراقته .

وتحريره : أنه مائع نجس فلم يجز بيعه كالخمر .

وأما قياسهم على الطاهر فلا يصح : لاختلافهما فيما يمنع من تساوي حكمهما . فأما ادعاؤهم إمكان الغسل فمذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه أن ذلك غير ممكن ؛ لتعذر [ ص: 385 ] اختلاطه بالماء ، والغسل إنما يصح فيما يختلط بالماء فيصل إلى جميع أجزائه ، أو يجاوز الماء جميع أجزائه ، وهذا متعذر في الدهن : لأنه يطفو على رأس الماء . وقال أبو العباس بن سريج : غسل الزيت ممكن ، وهو أن يراق في قلتين من ماء بأشد تحريك حتى يصل الماء إلى جميع أجزائه ، فعلى هذا خرج جواز بيعه على وجهين :

أحدهما : بيعه جائز كالثوب النجس .

والثاني : باطل بخلاف الثوب ، وليس كل ما أفضى إلى الطهارة في الحال الثانية جاز بيعه كجلد الميتة . وهكذا من ذهب إلى هذا القول حرم بيع الماء النجس الذي يطهر بالمكاثرة ؛ على وجهين .

التالي السابق


الخدمات العلمية