الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وإذا جاز السلم في التمر السنتين ، والتمر قد يكون رطبا ، فقد دل على أنه أجاز الرطب سلفا مضمونا في غير حينه الذي يطيب فيه : لأنه إذا أسلف سنتين كان في بعضها في غير حينه " .

قال الماوردي : وهذا كما قال .

السلم يجوز فيما كان موجودا ، أو وقت المحل ، وإن كان معدوما من قبل .

وقال أبو حنيفة : لا يصح السلم إلا فيما يكون موجودا من وقت العقد إلى وقت المحل .

وقال مالك : إذا كان موجودا وقت العقد ووقت المحل ، جاز السلم فيه ، وإن كان فيما بينهما معدوما فاعتبر طرفي العقد لا غير .

واستدلوا برواية إسحاق ، عن رجل من نجران ، عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسلفوا في النخيل حتى يبدو صلاحها " . يعني في تمر النخل . وبنهيه صلى الله عليه وسلم حكما عن بيع ما ليس عنده .

وقال أبو حنيفة : ولأن موت المسلم إليه قبل المحل يجوز ، وحلول ما عليه إن مات واجب ، فاقتضى أن يكون وجوده من حين العقد إلى أن يقدر السلم في بيوع الصفات كتأخير القبض في بيوع الأعيان ، ثم ثبت أن ما أوجب تأخير القبض في الأعيان المبيعة ثبت الخيار ولا يبطل العقد ، وجب أن يكون كل ما اقتضى تأخير القبض في الأشياء الموصوفة قد ثبت الخيار ، ولا يبطل العقد ، وجب أن يكون عدم المثمن عند حلول الأجل يوجب الخيار ولا يبطل العقد وقت المحل شرطا لجواز أن يستحق فيه ، كما كان وجوده وقت المحل شرطا لاستحقاقه فيه ، وهو عمدته في المسألة .

وقد جوز بعض أصحابه ذلك قياسا ، فقالوا : كل وقت جاز أن يكون السلم فيه مستحقا كان وجوده فيه شرطا قياسا على وقت المحل .

وقال مالك : للعقد طرفان ابتداء وانتهاء ، فلما كان وجوده في انتهائه وقت المحل شرطا اقتضى أن يكون وجوده في ابتدائه عند العقد شرطا ، وتحريره أنه أحد طرفي العقد فوجب أن يكون وجود المسلم فيه شرطا كالطرف الثاني .

واستدلا جميعا بأن قالا : ابتداء العقد أغلظ حكما من انتهائه بدليل أن بيع الآبق وقت العقد باطل ، وإن وجد من بعد ، فلما كان وجود ذلك في انتهاء العقد شرطا فأولى أن يكون [ ص: 392 ] وجوده في ابتدائه وانتهائه شرطا ؟ ولأن عقد السلم غرر ، فكان من شرطه أن يحرس مما يخاف حدوثه من الغرر حتى لا يكثر فيه فيبطل ذلك ، وعدم ذلك وقت العقد وإثباته غرر ، فوجب أن يحرس من العقد ، ولأن جهالة الشيء أيسر من عدمه ، فلما بطل السلم بجهالته وقت العقد فأولى أن يبطل بعدمه وقت العقد .

والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم " ومعلوم أن الثمار إنما توجد في وقت من السنة ، وهو صلى الله عليه وسلم قد أجاز السلم فيه سنتين وثلاثا ، وهذه مدة يعدم الرطب في أكثرها فدل على جوازه ، وإن عدم قبل أجله ، ولأن كل زمان لم يكن محلا للسلم عقدا لم يكن وجوده فيه شرطا ، قياسا على ما بعد الأجل ، ولأن كل ما لم يكن وجوده في ملك العاقد معتبرا لم يكن وجوده في ملك غيره معتبرا كالوصية ، ولأن قبض السلم يفتقر إلى زمان ومكان ، فلما لم يكن وجوده في غير مكان القبض معتبرا وجب ألا يكون وجوده في غير زمان القبض معتبرا ، ولأن الثمن في بيوع الأعيان في مقابلة المثمن في بيوع الصفات ، فلما صح في بيوع الأعيان أن يكون الثمن موجودا وقت المحل ، وإن لم يكن موجودا من قبل صح في بيوع الصفات ، أن يكون المثمن موجودا وقت المحل وإن لم يكن موجودا من قبل .

فأما الجواب عما استدلوا به من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه " فهو أن رواية رجل من أهل نجران مجهول لا يعول على حديثه ، ثم لو صح لحمل على بيوع الأعيان . وأما نهي حكيم عن بيع ما ليس عنده فمحمول على بيع ما لم يملكه من الأعيان .

وأما استدلالهم بأن السلم قد حل بموت المسلم إليه ، فهذا اعتبار ساقط : لأن العقود تحمل على السلامة ، ولو جاز أن يكون مثل هذا معتبرا لبطلت أكثر العقود لجواز تلفها وحدوث من صحتها ، ولو جاز أن يكون ما قبل المحل أجلا مستحقا لكان مجهولا ، ولوجب أن يكون العقد باطلا : لأن العقد يبطل بالأجل المجهول ، وفي ترك اعتبار هذا دليل على ترك اعتبار ما قالوا .

وأما استدلال مالك بالطرف الثاني فإنما كان وجوده فيه معتبرا لاستحقاق قبضه فيه ، ولم يكن وجوده وقت العقد معتبرا : لأنه لا يستحق قبضه فيه ، وأما قولهم : إن العقد أقوى من حال القبض ، فهذا في بيوع الأعيان ، فأما في السلم فحال القبض والمحل أقوى من حال العقد ، ألا ترى أن السلم لو كان موجودا وقت العقد معدوما وقت المحل كان العقد باطلا ، وأما قولهم إن عقد السلم غرر ، فوجب أن يكون محروسا من الغرر المظنون ، فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين :

[ ص: 393 ] أحدهما : أنه ليس بغرر كبيوع الأعيان ، فعلى هذا سقط الاستدلال . والثاني : أنه غرر جوزه الشرع ، فعلى هذا يجب أن يكون محروسا من الغرر في حالتين :

إحداهما : في حال السلامة ، وهذا غرر في غير حال السلامة .

والثانية : من الغرر وقبل المحل ، وهذا غرر قبل المحل ، وأما قولهم أنه لما بطل بجهالته وقت العقد فأولى أن يبطل بعدمه وقت العقد ، فغير صحيح : لأن جهالته وقت العقد يمنع من استيفاء ما يستحق بالعقد وعدمه وقت العقد لا يمنع من استيفاء ما استحق بالعقد .

التالي السابق


الخدمات العلمية