الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " فإذا أجازه صلى الله عليه وسلم بصفة مضمونا إلى أجل كان حالا أجوز ، ومن الغرر أبعد فأجازه عطاء حالا " .

قال الماوردي : وهذا كما قال . يجوز عقد السلم حالا ومؤجلا . وقال مالك ، وأبو حنيفة : لا يجوز السلم حالا حتى يكون مؤجلا ، إلا أن أبا حنيفة يقول : يجوز إلى كل أجل قل أو كثر ، وقال مالك : لا يجوز الأجل فيه أقل من ثلاثة أيام .

واستدلا على أن الأجل من شرطه بحديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، وأجل معلوم " . فجعل الأجل فيه شرطا ، ولأن عقد السلم يجمع ثمنا ومثمنا ، فلما كان الثمن لا يقع إلا على وجه واحد ، وهو التعجيل ، اقتضى أن يكون المثمن لا يقع إلا على وجه واحد وهو التأجيل .

وتحريره قياسا أنه أحد بدلي المسلم فوجب ألا يقع على وجه واحد كالثمن : ولأن عقد السلم كعقد الإجارة : لأن كل واحد منهما عقد على ما لا يملكه العاقد في الحال ، ثم أثبت أن الأجل شرط في عقد الإجارة ، فوجب أن يكون شرطا في عقد السلم .

وتحريره قياسا أنه عقد ليس من شرطه وجود المعقود عليه في ملك عاقده ، فوجب أن يكون الأجل من شرطه كالإجارة ، ولأن عقد السلم موضوع على ارتفاق العاقدين به ، وارتفاق المشتري باسترخاصه ، وارتفاق البائع بتأخيره ، فإذا عقد حالا زال وضع حق حمل البائع به ، فبطل لخروجه عن موضوعه ، ولأن السلم إنما سمي سلما لاختصاصه بتأجيل المثمن ، وتسليم الثمن ، فلم يجز أن يعدل به عما وضع الاسم له .

والدلالة على جوازه حالا قوله تعالى وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] ولأنه عقد معاوضة محضة ، فجاز أن يصح مؤجلا ومعجلا كالبيع ، ولأن عقد البيع يتنوع نوعين : بيع عين ، وبيع صفة ، فلما صحت بيوع الأعيان حالة ، وجب أن يصح بيوع الصفات حالة .

وتحريره قياسا : أنه أحد نوعي البيع فوجب أن يصح حالا كبيوع الأعيان : ولأن الثمن في بيوع الأعيان مؤجلا ومعجلا جاز أن يكون المثمن في بيع الصفات مؤجلا ومعجلا ، وتحريره قياسا أن ما تعلق بالذمة من عقد المعاوضة دخله التعجيل والتأجيل كالثمن ، ولأنها مدة ملحقة بعد معاوضة محضة ، فوجب ألا يكون شرطا فيه كالخيار وكالأجل في بيوع الأعيان ، ولأنه عقد معلوم ليس من شرطه التنجيم فوجب ألا يكون من شرطه التأجيل [ ص: 396 ] كالنكاح ، ولما ذكره الشافعي في أن الأجل غرر ، فلما جاز السلم مؤجلا مع ما فيه من الغرر ، كان حالا أجوز : لأنه من الغرر أبعد .

فأما الجواب عن استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم : إلى أجل معلوم فهو محمول على سببه المنقول عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلمون في الثمر السنتين والثلاث ، فقال : من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، وأجل معلوم .

فيكون تقرير ذلك فمن أسلم في مكيل فليكن الكيل معلوما ، ومن أسلم في موزون فليكن الوزن معلوما ، ومن أسلم في مؤجل فليكن الأجل معلوما يدل على ذلك من الحديثين :

أحدهما : جواز السلم فيما ليس بمكيل ولا بموزون في العدد المزروع ، ولم يكن الكيل والوزن شرطا في كل سلم ، كذلك يجوز في غير المؤجل ، ولا يكون الأجل شرطا في كل سلم .

والثاني : أنه جمع بين الحدين الكيل والوزن ، واجتماعهما ليس بشرط ، كذلك ضم الأجل إليهما ليس بشرط .

وأما قولهم : إنه أحد بدلي السلم فكان على جهة واحدة كالثمن ، فلا يصح : لأنه رد الفرع إلى الأصل ، لأن الثمن لا يدخله الأصل .

والمراد بهذا القياس أن يلزم في المثمن الأجل ، وهذا لا يصح ، ثم يقول : الثمن في السلم في مقابلة المثمن في بيوع الأعيان لاستحقاق تعجيلها وسقوط الأجل فيها ثم كان ما في مقابلة العين من المثمن يصح أن يكون مؤجلا ومعجلا ، وجب أن يكون ما في مقابلة الثمن في السلم يصح أن يكون مؤجلا ومعجلا ، وأما قياسهم على الإجارة ، فالإجارة على ضربين : تكون المنفعة فيها مقدرة بغير مدة فهذه الإجارة تجوز حالا ومؤجلة ، فإن ردوه إليها لم يصح ، وضرب تكون المنفعة فيها لا تتقدر إلا بالمدة فلا بد من شرط المدة فيها لتصير المنفعة مقدرة فيها ، ولا يصح رد السلم إليها : لأن السلم لما تقدر بغير مدة لم يلزم فيه اشتراط المدة .

وأما قولهم : إن موضوع السلم ارتفاق المتعاقدين به في إسقاط الأجل إبطال موضوعه فهذه حجة تقلب عليهم ، فيقال : لما كان ما وضع له السلم من رفق المشتري بالاسترخاص ليس بشرط في صحة السلم ، حتى لو أسلم دينارا فيما يساوي درهما جاز ، وجب أن يكون ما وضع له من رفق البائع بالأجل ليس بشرط في صحة السلم ، ولو أسلم حالا جاز ، وأما قولهم : إنه إنما اختص باسم السلم لاستحقاق الأجل فدعوى غير مسلم ، بل سمي سلما لاستحقاق تسليم جميع الثمن .

فصل : فإذا ثبت جواز السلم حالا ومؤجلا فقد اختلف أصحابنا هل الأصل فيه التأجيل والحلول رخصة ، أو الأصل فيه الحلول والتأجيل رخصة ؛ على ثلاثة أوجه :

[ ص: 397 ] أحدها : أن الأصل فيه التأجيل لانعقاد الإجماع على جوازه ، والحلول رخصة فيه .

والوجه الثاني : أن الأصل فيه الحلول لانتفاء الغرر فيه ، والتأجيل رخصة .

والوجه الثالث : أن الأمرين فيه سواء ، وليس أحدهما أن يكون أصلا بأولى من الآخر لقيام الدلالة عليهما ، وجواز السلم معهما ، ولهذا الخلاف تأثير نذكره من بعد إن شاء الله تعالى :

التالي السابق


الخدمات العلمية