الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : ولا أكره من الآنية إلا الذهب والفضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم " .

قال الماوردي : وهذا كما قال الأواني ضربان :

أحدهما : ما كان من جنس الأثمان .

والثاني : ما كان من غير جنس الأثمان ، فأما ما كان من جنس الأثمان فأواني الذهب والفضة واستعمالها حرام في الأكل والشرب وغيره .

وقال دواد بن علي : إنما يحرم استعمالها في الشرب وحده دون الأكل وغيره استدلالا بحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم " . فلما خص الشرب بالذكر دل ذلك على اختصاصه بالتحريم .

وبما روي عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أن حذيفة بن اليمان استسقى من دهقان بالمدائن ماء ، فسقاه في إناء من فضة ، فحذفه ثم اعتذر إلى القوم فقال : إني كنت نهيته أن تسقيني فيه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا خطيبا فقال : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تلبسوا الديباج والحرير فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة .

ودليلنا رواية ابن سيرين ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة " وهذا نص : لأنه نهى عن الأكل وداود يجيزه ، ولأن [ ص: 77 ] الشرب فيه أصون استعمالا من الاغتسال منه ، فلما كان الشرب محرما ، وكان ما سواه أولى بالتحريم ، ولأن تحريم الشرب فيه لأحد معنيين : إما لما فيه من الخيلاء والكبر المفضي إلى البغضاء والمقت ، ولما فيه من انكسار قلوب الفقراء المفضي إلى التحاسد والتقاطع ، ووجود كل واحد من المعنيين فيما سوى الشرب من الاستعمال أكثر من وجوده في الشرب وكان بالتحريم أحق .

وأما نصه على الشرب ينبه به على غيره من الاستعمال ، كما نص على الفضة ينبه به على الذهب .

وأما قوله : " إنما يجرجر في جوفه نار جهنم " فالجرجرة : التصويت . قال الشاعر :


وهو إذا جرجر بعد الهب جرجر في حنجره كالحب

وقوله : نار جهنم . فالجرجرة يعني : سيصير يوم القيامة نارا فعبر عن الحال بالمآل كما قال تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا [ النساء : 10 ] . يعني : يصير يوم القيامة نارا .

فإذا ثبت تحريم استعمالها فأكل فيها وتوضأ منها كان الطعام حلالا والوضوء جائزا وإنما يكون بالاستعمال عاصيا ، وإنما كان كذلك لأن النهي عنه لمعنى في الإناء لا لمعنى في الماء والطعام بخلاف الماء النجس الذي يختص النهي عنه لمعنى فيه لا في غيره ، والأصول مقررة على الفرق بين ورود النهي عن الشيء لمعنى فيه فتقتضي فساد المنهي عنه وبين وروده لمعنى في غيره فلا تقتضي فساد المنهي عنه ، كالنهي عن الصلاة في بقعة نجسة لما اختص لمعنى في البقعة بطلت ، وفي الدار المغصوبة لما اختص لمعنى في المالك لم يبطل والأولى : لمن أراد أن يتوقى المعصية بأكل ما في أواني الذهب والفضة أن يخرج الطعام والشراب منها ثم يأكله إن شاء " ولا يعصي به كما حكي أن فرقدا السبخي ، والحسن البصري حضرا وليمة بالبصرة فقدم إليهما طعام في إناء من فضة فقبض يده عن الأكل منه فأخذ الحسن الإناء وأكبه على الخوان وقال : كل الآن إن شئت .

فأما اتخاذ أواني الذهب والفضة للادخار والزينة دون الاستعمال ففيه وجهان :

أحدهما : يجوز لاختصاص الاستعمال بالتحريم . [ ص: 78 ] والثاني : لا يجوز لأن ادخارها داع إلى استعمالها وما دعا إلى الحرام كان حراما ، كإمساك الخمر لما كان داعيا إلى تناولها كان الإمساك حراما .

التالي السابق


الخدمات العلمية