الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وما جاز بيعه جاز رهنه وقبضه من مشاع وغيره " .

قال الماوردي : وهذا كما قال .

والكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين :

أحدهما : شرح المذهب فيها .

والثاني : ذكر الخلاف المتعلق بها .

فأما شرح المذهب فقوله : وما جاز بيعه جاز رهنه .

فهذه هي الرواية المشهورة .

ومن أصحابنا من يروي ذلك : ومن جاز بيعه جاز رهنه ، فيجعل ذلك معطوفا على قوله : ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضا من جائز الأمر حين رهن ، وحين أقبض .

ومن جاز بيعه جاز رهنه ، فيجعل الجائز الأمر في الرهن من جاز بيعه ، ومن لم يجز بيعه لم يجز رهنه مثل المجنون والصغير ، والمحجور عليه لسفه فيكون هذا مستمرا .

وعلى القياس مطردا ، فيكون كل من جاز بيعه جاز رهنه ، وكل من لم يجز بيعه لم يجز رهنه .

قالوا : ومعنى قوله : من مشاع وغيره يعني في مشاع وغيره .

[ ص: 12 ] والرواية الأولى أصح ، وهي المشهورة عنه .

وما جاز بيعه جاز رهنه يعني : أن كل شيء كان بيعه جائزا كان رهنه جائزا وكل شيء لم يجز بيعه لم يجز رهنه من الأجناش أو الأنجاش وأمهات الأولاد .

فإن قيل : فقد يجوز بيع ما لا يجوز رهنه كالمدبر والمعتق نصفه والطعام الرطب المرهون إلى أجل يفسد فيه .

وقد يجوز رهن ما لا يجوز بيعه كالأمة دون ولدها الصغير والثمرة قبل بدو صلاحها مطلقا من غير اشتراط القطع فلأصحابنا في ذلك ثلاثة أجوبة :

أحدها : أن الشافعي قصد بذلك ما أفصح به في آخر كلامه من رهن المشاع ردا على أبي حنيفة حيث أجاز بيع المشاع ومنع من رهنه فقال : وما جاز بيعه جاز رهنه من مشاع وغيره ، فأما الجمع بينهما في كل موضع فلا .

الجواب الثاني : أنه أراد بذلك غالب الأشياء أن ما جاز بيعه جاز رهنه وما لم يجز بيعه لم يجز رهنه ، وقد يكون منها ما يجوز بيعه ولا يجوز رهنه ، وما يجوز رهنه ولا يجوز بيعه ، لكن الغالب بخلافه ، فجعل قائل هذا الجواب جملة الأشياء على أربعة أضرب :

ضرب يجوز بيعه ورهنه كالأملاك المطلقة .

وضرب لا يجوز بيعه ولا رهنه كالأوقاف وأمهات الأولاد .

وضرب يجوز بيعه ولا يجوز رهنه على أحد القولين كالمدبر والمعتق نصفه .

وضرب لا يجوز بيعه ويجوز رهنه ، كالأمة دون ولدها ، والثمرة مطلقا دون بدو صلاحها .

والجواب الثالث : وهو قول المحققين من أصحابنا : أن كلام الشافعي محمول على صفته ، وكل ما جاز بيعه جاز رهنه قياسا مطردا ، واعتبارا صحيحا ، وما لم يجز بيعه لم يجز رهنه .

وما ذكروه من جواز رهن ما لا يجوز بيعه كالأمة ذات الولد ، والثمرة مطلقا قبل بدو صلاحها فغلط : لأن بيع ذلك يجوز ، فتباع الأمة مع ولدها ، والثمرة بشرط قطعها فصار بيع ذلك جائزا ، وإن اختلفت صفاته وأحواله .

وما ذكروه من جواز بيع ما لا يجوز رهنه كالمدبر والمعتق نصفه ، ففي جواز رهن المدبر والمعتق نصفه قولان :

أحدهما : يجوز ، فعلى هذا قد استمر الجواب ، وسقط السؤال .

والثاني : لا يجوز ، فعلى هذا يجوز أن يرهنه المشتري وإن لم يجز أن يرهنه البائع فصار رهنه جائزا وإن كان في أحوال مرتهنه مختلفا فهذا جملة الكلام في شرح المذهب وتفسير كلامه .

[ ص: 13 ] فصل : فأما الخلاف المتعلق بهذه المسألة فهو يشتمل على فصلين :

أحدهما : هل استدامة قبض الرهن من شرط صحته أم لا ؟

والثاني : هل رهن المشاع جائز أم لا ؟

فأما الفصل الأول في استدامة القبض فتقديم الكلام فيه أولى لأنه لأبي حنيفة أصل ينشئ بطلان رهن المشاع عليه ، فمذهب الشافعي : أن استدامة قبض الرهن ليس بشرط في صحة الرهن ، فإن خرج الرهن من يد المرتهن باستحقاق كالإجارة ، أو بغير استحقاق كالإعارة أو الغصب لم يبطل الرهن .

وقال أبو حنيفة : استدامة قبض الرهن شرط في صحة الرهن ، فإن خرج من يد المرتهن باستحقاق كالإجارة أبطل الرهن ، وإن خرج من يده بغير استحقاق كالغصب والإعارة لم يبطل الرهن ، لأنه لا يقدر على انتزاعه إذا خرج باستحقاق أو يقدر على انتزاعه إذا خرج بغير استحقاق .

واستدل على أن استدامة القبض شرط في صحة الرهن بقوله تعالى : فرهان مقبوضة [ البقرة : 283 ] فجعله بالقبض وثيقة للمرتهن ، فدل على أن زوال القبض يزيل وثيقة المرتهن .

ولأنه محتبس بحق الاستيفاء فوجب أن يكون زوال اليد عنه مزيلا لحق الاستيفاء منه أصله : المبيع المحتبس في يد بائعه لاستيفاء ثمنه .

ولأن المقصود بعقد الرهن حصول الاحتباس والقبض كما أن المقصود بالبيع حصول الملك واليد ثم كانت استدامة الملك في البيع من موجبه ومقتضاه فوجب أن تكون استدامة القبض في الرهن من موجبه ومقتضاه .

ولأن الرهن قبل القبض غير لازم ، فإن قبض صار لازما ، فلما كان لزومه بالقبض ، وجب أن يزول لزومه بزوال القبض .

ودليلنا حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرهن مركوبا ومحلوبا ولا يخلو أن يكون ذلك للراهن أو للمرتهن فلم يجز أن نجعل ذلك للمرتهن لأمرين :

[ ص: 14 ] أحدهما : إجماعهم على أن المرتهن لا يستحق ذلك .

والثاني : أنه جعل على الراكب والشارب نفقة الرهن ، والنفقة واجبة على الراهن دون المرتهن ، فثبت بهذين جواز ذلك للراهن ، فصار مستحقا لإزالة يد المرتهن عنه ، ثم لم يزل حكم الرهن عنه فثبت أن استدامة قبضه ليست شرطا في صحته ، ولأنه عقد من شرط لزومه القبض ، فوجب أن لا يكون من شرط صحته استدامة القبض كالهبة والصرف ، ولأن القبض في الرهن أوسع من القبض في البيع ، لجواز اشتراط الرهن على يدي عدل ، فلما لم تكن استدامة القبض في البيع مع قوته شرطا في صحته : فلأن لا تكون استدامة القبض في الرهن مع ضعفه شرطا في صحته أولى ، ولأن من جعل استدامة القبض فيه شرطا فلا يخلو أن تكون استدامة قبضه مشاهدة أو حكما ، فلا يجوز أن يكون الشرط في صحة استدامة قبضه مشاهدة ، لجواز خروجه من يده بعارية أو على يد عدل ، فثبت أن الشرط في صحة استدامة قبضه حكما ، وهذا شرط معتبر عندنا ، لأنه وإن خرج من يده باستحقاق فهو في حكم المقبوض له ، لأنه لا يخرج عن سلطان المرتهن ولا يحال بينه وبينه .

وأما استدلالهم بقوله تعالى : فرهان مقبوضة [ البقرة : 283 ] فهو حجة عليهم ، لأنه جعل الرهن وثيقة بحصول القبض ، فإذا حصل القبض مرة فقد استقر القبض وحصل الرهن وثيقة أبدا .

وأما قياسهم على المبيع في يد بائعه لاستيفاء الثمن ، فغير صحيح ، لأن المبيع المحبوس بحق اليد لا العقد ، فإذا زالت اليد زال حكم الاحتباس والرهن محبوس بحق العقد والقبض ، فإذا زال استصحابه لم يبطل العقد المقترن به كقبض الهبات والصرف .

وأما قولهم : إن المقصود بعقد الرهن حصول الاحتباس والقبض كالملك في البيع ، فحجة تعكس عليهم لأنه لما لم تكن استدامة الملك في البيع شرطا في صحة العقد ، بل لو شرط ألا يزيل المشتري ملكه عن المبيع بطل العقد وجب ألا تكون استدامة القبض في الرهن شرطا في صحة العقد .

وأما قولهم : إن لزومه لما كان بالقبض وجب أن يزول لزومه بزوال القبض ، فباطل بالعارية فإنه قد زال بها القبض ولم يزل بها لزوم الرهن على قولنا إن لزومه كان بالقبض لا باستدامة القبض ، وخروجه من يده يزيل استدامة القبض ولا يزيل ما تقدم من القبض فلم يزل ما به لزم على أن حكم قبضه مستدام .

فصل : فأما الفصل الثاني في رهن المشاع فمذهب الشافعي : جواز رهن المشاع من الشريك ، وغير الشريك .

[ ص: 15 ] وقال أبو حنيفة : رهن المشاع يصح من الشريك ، ولا يصح من غير الشريك .

قال : لأن رهنه من غير الشريك يوجب مهايأة بين المرتهن والشريك ، والمهايأة توجب انتزاع الرهن من يد المرتهن باستحقاق قارن العقد ، فوجب أن يكون مانعا من صحة الرهن ، أصله ، إذا رهن شيئا مغصوبا .

قال : ولأن المهايأة توجب تسليمه إلى المرتهن يوما وانتزاعه من يده يوما ، ولو شرط هذا في عقد الرهن كان باطلا ، فكذا إذا استحق هذا بعقد الرهن كان باطلا .

ودليلنا : هو أن كل ما جاز بيعه جاز رهنه كالمجوز فإن قيل : فالخلاف في صحة قبضه لا في صحة عقده ، قلنا : كل ما صح أن يكون مقبوضا في البيع صح أن يكون مقبوضا في الرهن كالمحوز ، ولأنه لو رهن شيئا محوزا عند رجلين جاز الرهن وإن كان نصفه مشاعا رهنا عند كل واحد من الرجلين فكذا إذا كان النصف منه مشاعا رهنا والنصف الآخر مطلقا .

وتحرير هذا الاستدلال قياسا : أن كل شيء جاز له أن يرهن جميعه عند شخص جاز له أن يرهن بعضه مشاعا عند ذلك الشخص .

أصله : إذا رهن المحوز عند رجلين .

وأما قياسهم على رهن المغصوب بعلة أن المهايأة واجبة ، وهي توجب انتزاعا من اليد .

قلنا : المهايأة غير واجبة عندنا لأمرين :

أحدهما : أن منفعة الشيء بين المالكين ، فلم يلزم أحدهما أن يعارض على منفعة ملكه بما يعتاضه من منفعة ملك صاحبه .

والثاني : أن في المهايأة تعجيلا لحق مؤجل وتأجيلا لحق معجل ، وتعجيل ما كان مؤجلا ، وتأجيل ما كان معجلا غير واجب ، ولو وجبت المهايأة لكان الجواب عن ذلك من وجهين :

أحدهما : أن المغصوب لا يمكن استيفاء الحق من ثمنه فلم يجز رهنه ، وليس كذلك المشاع بعد المهايأة .

والثاني : أن القبض في المغصوب لم يصح فيلزم به الرهن ، وليس كذلك المشاع بعد المهايأة .

وأما قولهم : إن ذلك يقتضي أن يكون يوما رهنا ، ويوما غير رهن ، فغير صحيح ، لأنه [ ص: 16 ] رهن في جميع الأيام ، وقبضه حكم مستدام ، وخروجه في يوم المهايأة عن يده لا يزيل حكم قبضه عنه ، وإن حصل في يد غيره ، فصار كمن رهن شيئا على أنه يكون في يد مرتهنه يوما وعلى يد عدل يوما لم يمنع ذلك من صحة الرهن وكان هذا بخلاف قوله : أرهنك يوما وأسترجعه منك يوما .

التالي السابق


الخدمات العلمية