الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو رهنه دارين فقبض إحداهما ولم يقبض [ ص: 43 ] الأخرى كانت المقبوضة رهنا دون الأخرى بجميع الحق " .

قال الماوردي : إذا رهنه دارين بألف فإن أقبضه إياهما كانتا رهنا معا وكل واحدة منهما رهنا بجميع الألف ، ولو أقبضه إحداهما دون الأخرى كانت المقبوضة رهنا بجميع الألف .

وقال أبو حنيفة إن أقبضه الدارين كانتا رهنا بجميع الألف ، وكل واحدة منهما رهن بحصتها من الألف ، وإن أقبضه إحداهما دون الأخرى كانت المقبوضة رهنا بحصتها من الألف ، ولا تكون رهنا بجميع الألف استدلالا بشيئين :

أحدهما : أن الرهن عقد على عين في مقابلة عوض كالبيع ، فلما كان لو باعه دارين بألف كانت كل واحدة منهما مبيعة بحصتهما من الألف ، ولا تكون مبيعة بجميع الألف فكذلك الرهن .

والثاني : أن الرهن وثيقة كالضمان ، ثم ثبت أن رجلين لو ضمنا ألفا عن رجل كانت بينهما ، ولا تكون الألف على كل واحد منهما ، كذلك الرهن إذا رهنه دارين بألف كانت الألف مقسطة عليهما ولا تكون جميع الألف في واحدة منهما .

والدلالة عليه شيئان :

أحدهما : أنه لما كان جميع الرهن محتبسا بجميع الدين وبكل جزء من أجزائه حتى لو رهنه على ألف فقضاه ألفا إلا درهما كان جميع الرهن محتبسا بالدرهم الباقي ، دل على أن الرهن كله وكل جزء من أجزائه رهن في الحق كله وفي كل جزء من أجزائه .

فإن قيل : هذا فاسد بالمبيع يتقسط الثمن على أجزائه ، ولو قبض البائع بعض ثمنه كان له حبس جميعه بالباقي ؟ قلنا : عنه جوابان :

أحدهما : أن على البائع أن يسلم من المبيع بقسط ما قبض ويحتبس منه بقسط ما بقي حتى لو باع كرين من طعام بألف وقبض منها نصفها لزمه تسليم أحد الكرين ، وكان له احتباس الكر الباقي فعلى هذا سقط السؤال .

والثاني : أنه لا يلزمه تسليم شيء من المبيع إلا بعد قبض جميع الثمن ، ثم هذا السؤال لا يلزم : لأن في المبيع حقين : حق استحقاق ، وهذا متقسط وحق استيثاق وهذا غير متقسط كالرهن ، وهو إنما يحتبسه بحق الاستيثاق لا بحق الاستحقاق فصار من هذا الوجه كالرهن .

والدلالة الثانية : أن الرهن وثيقة في الحق كالشهادة والضمان ثم ثبت أن الشهادة وذمة [ ص: 44 ] الضامن وثيقة في الحق كله وفي كل جزء من أجزائه فوجب أن يكون الرهن وثيقة في الحق كله وفي كل جزء من أجزائه .

وأما الجواب عما ذكره من المبيع ، فالفرق بينهما : أن الثمن في المبيع عوض عنه والعوض عن جميع الشيء لا يكون عوضا عن بعضه وليس كذلك الرهن لأنه ليس بعوض وإنما هو وثيقة ، والوثيقة في الشيء يجوز أن تكون وثيقة في بعضه .

وأما ما ذكروه من الضامنين فغير صحيح ، لأن الضامنين هما كالعاقدين فلذلك تبعض ، وكذلك الرهن إذا كان في عقدين كان متبعضا كالضامنين .

وأما العقد الواحد فهو كالضامن الواحد .

فصل : فإذا ثبت أن المقبوضة من الدارين تكون رهنا بجميع الحق ، فإن لم يكن ذلك مشروطا في بيع فلا خيار للمرتهن ، وإن كان مشروطا في بيع فالمرتهن البائع بالخيار بين أن يقيم على المبيع بارتهان إحدى الدارين وبين أن يفسخ البيع ، لأنه شرط ارتهان دارين فلم يحصل له إلا ارتهان إحداهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية