الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " والقاتل فإن قتل بطل الرهن " .

قال الماوردي : أما العبد القاتل فعلى ضربين :

أحدهما : أن يكون قاتل خطأ يلزمه المال ، وسيأتي الكلام في جواز رهنه .

والضرب الثاني : أن يكون قاتل عمد يلزمه القود ، فقد اختلف قول الشافعي في قتل العمد ، ما الذي يوجب .

[ ص: 85 ] فأحد القولين أنه يوجب القود وحده فأما الدية فإنما تجب باختيار الولي ، فعلى هذا يجوز رهنه كما يجوز رهن المرتد : لأن القاتل يتردد بين الاقتصاص منه والعفو عنه كالمرتد يتردد بين قتله بالردة ، وسلامته بالتوبة .

والقول الثاني : أن قتل العمد يوجب أحد أمرين : إما القود وإما الدية فعلى هذا في جواز رهنه قولان :

أحدهما : لا يجوز رهنه كالقاتل الخطأ ، والقول الثاني : يجوز رهنه : لأنه قد يجوز العفو عنه فأما بيعه فقد مضى في كتاب البيوع .

فصل : فإذا ثبت هذا فإن قلنا إن رهنه جائز فلا يخلو حال المرتهن من أحد أمرين : إما أن يكون عالما بجنايته أو غير عالم .

فإن كان عالما بجنايته فلا خيار له في الحال : لأن الجناية عيب إذا علم بها لم يكن له خيار فيها ثم ينظر ما يكون من أمر المجني عليه في الثاني فلا يخلو من ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يقتص منه .

والحالة الثانية : أن يعفو عنه إلى مال .

والحالة الثالثة : أن يعفو عنه إلى غير مال .

فإن اقتص منه فلا يخلو حال القصاص من أحد أمرين :

إما أن يكون في طرف من أطرافه ، أو في نفسه ، فإن كان القصاص في طرف من أطرافه كيده أو رجله كان رهنا بحاله ولا خيار للمرتهن في البيع لعلمه بجنايته .

وإن كان القصاص في نفسه فعلى قول أبي إسحاق له الخيار في فسخ البيع كالمستحق ، وعلى قول أبي علي لا خيار له في البيع لأنه عيب كان عالما به فهذا حكم القصاص .

وإن عفا عنه إلى مال فلا يخلو حال سيده من أحد أمرين :

إما أن يفديه من ماله ، أو لا يفديه .

فإن فداه من ماله ودفع أرش جنايته من عنده فهو رهن بحاله ، ولا خيار للمرتهن في البيع .

وإن لم يفده السيد ولا غيره وبيع في الجناية فقد بطل الرهن .

وعلى قول أبي إسحاق للمرتهن الخيار في فسخ البيع كالمستحق ، وعلى قول أبي علي لا خيار له لأنه عيب علم به فهذا حكم العفو إلى مال ، وإن عفا عنه إلى غير مال فقد [ ص: 86 ] سقط حكم الجناية واستقر رهنه ، ولا خيار في البيع بحال ، فهذا حكم الجناية إذا كان المرتهن عالما بها .

فصل : فأما إذا كان المرتهن غير عالم بجنايته فعلى ضربين :

أحدهما : أن يعلم بها قبل استقرار حكمها ، فإذا علم بها كان بالخيار بين فسخ البيع وإمضائه ، فإن فسخ البيع كان له ، لأن الجناية عيب لم يعلم به ورده ممكن ، فإن أقام صار كالمرتهن عالما بجنايته ، فيكون على ما مضى من اعتبار أحوال المجني عليه في الأحوال الثلاثة من اقتصاصه أو عفوه على مال أو عفوه إلى غير مال . . ثم الحكم في كل واحد منها على ما مضى .

والضرب الثاني : ألا يعلم المرتهن بجنايته إلا بعد استقرار حكمها فهذا على ثلاثة أضرب :

أحدها : أن يستقر حكمها على القصاص منه .

والثاني : أن يستقر حكمها على العفو عنه إلى مال .

والثالث : أن يستقر حكمها على العفو عنه إلى غير مال ، فإن استقر حكمها على الاقتصاص منه على ضربين :

أحدهما : أن يكون القصاص في طرفه ، فلا يبطل رهنه بالقصاص لبقائه فيه لكن المرتهن بالخيار في فسخ البيع وإمضائه لإمكان رده وعدم العلم به .

والضرب الثاني : أن يكون القصاص في نفسه ، فقد بطل الرهن ، وعلى قول أبي إسحاق له الخيار وإن فات رده كالمستحق وعلى قول أبي علي لا خيار له لفوات رده كالعيب .

وإن استقر حكمها على العفو عنه إلى مال فعلى ضربين :

أحدهما : أن يفديه السيد ، فيكون حكمه كحكم العفو عنه إلى غير مال على ما نذكره .

والضرب الثاني : ألا يفديه السيد ، ويباع في جنايته فقد بطل الرهن ، وعلى قول أبي إسحاق للمرتهن الخيار في فسخ البيع كالمستحق ، وعلى قول أبي علي لا خيار له في فسخ البيع لفوات رده كالمعيب .

فإن استقر حكمها على العفو عنه إلى غير مال فقد سقط حكم الجناية ثم ينظر في العبد الجاني ، فإن لم يتب من جنايته وكان مصرا على حاله ، فهذا عيب وللمرتهن الخيار في [ ص: 87 ] فسخ البيع وإمضائه ، فإن تاب العبد من جنايته وانتهى من العود إلى مثلها ، فهل ذلك عيب في الحال أم لا ، على وجهين مضيا في البيوع .

وما ذكرناه في توبة المرتد من الوجهين مبني على ما مضى من الوجهين :

أحدهما : أنه عيب ، فعلى هذا له الخيار في فسخ البيع وإمضائه .

والوجه الثاني : أنه ليس بعيب في الحال ، فعلى هذا هل له الخيار في فسخ البيع أم لا ، على وجهين :

أحدهما : له الخيار اعتبارا بوجوبه في الابتداء .

والوجه الثاني : لا خيار له اعتبارا بسقوطه في الانتهاء .

فصل : فأما رهن العبد إذا كان قاتلا في الحرابة ، فعلى ضربين :

أحدهما : أن يرهن قبل القدرة عليه ، فهذا في حكم الفاعل في غير الحرابة لجواز العفو عنه ، فيكون الحكم في رهنه على ما مضى .

والضرب الثاني : أن يرهنه بعد القدرة عليه ، ففي جواز رهنه وجهان :

أحدهما : يجوز لأن قتله في الحرابة لا يخرجه من ملك سيده كالمرتد .

والثاني : أن رهنه لا يجوز : لأن قتله محتوم لا يجوز العفو عنه ، فكان أسوأ حالا من المرتد الذي قد يتوب فيعفى عنه .

فصل : فأما إذا أخذ مالا في الحرابة ، أو سرق في غير الحرابة فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون المال موجودا معه ، فينزع من يده فرهن هذا جائز : لأنه لم يتعلق برقبته غرم ، ووجوب قطعه لا يمنع من رهنه .

فإن كان المرتهن عالما به فلا خيار له ، وإن لم يكن عالما به فهو بالخيار في فسخ البيع وإمضائه ، سواء علم به قبل قطعه ، أو لم يعلم به إلا بعد قطعه لأنه قد يمكن رده بعد القطع .

والضرب الثاني : أن يكون المال قد تلف من يده فالحكم في رهنه كالحكم في رهن الجاني خطأ على ما نذكره لتعلق الغرم برقبته .

التالي السابق


الخدمات العلمية