الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو قال رهنتكه عصيرا ثم صار في يديك خمرا ، وقال المرتهن رهنتنيه خمرا ففيها قولان : أحدهما أن القول قول الراهن لأنه يحدث كما يحدث العيب في البيع ومن قال هذا أراق الخمر ولا رهن له والبيع لازم ، والثاني أن القول [ ص: 116 ] قول المرتهن لأنه لم يقر أنه قبض منه شيئا يحل له ارتهانه بحال وليس كالعيب في العبد الذي يحل ملكه والعيب به والمرتهن بالخيار في فسخ البيع ( قلت ) أنا : هذا عندي أقيس لأن الراهن مدع " .

قال الماوردي : وصورة هذه المسألة في رجل ارتهن عصيرا حلوا شرطه في موضع عقد البيع ثم وجد العصير خمرا فهذا على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تصير خمرا في يد المرتهن فقد بطل فيه الرهن ولا خيار له في البيع .

والقسم الثاني : أن تصير خمرا في يد الراهن بعد العقد وقبل القبض ويقبضه المرتهن وهو لا يعلم به ثم يعلم فقد بطل به الرهن ووجب له الخيار في البيع بين أن يقيم عليه بلا رهن وبين أن يفسخ لأن ما شرطه من الرهن لم يسلم له بالقبض .

والقسم الثالث : أن يكون العصير قد صار خمرا قبل العقد ولم يعلما به إلا في يد المرتهن بعد القبض فهذا رهن باطل وفي بطلان البيع المشروط فيه قولان :

أحدهما : باطل لبطلان ما اقترن به من ارتهان الخمر .

والقول الثاني : جائز لاستقلال البيع بحكمه ، وجواز تفرده عن غيره ، فعلى هذا يكون البائع المرتهن بالخيار بين إمضاء البيع بلا رهن وبين فسخه فهذا حكمه إذا لم يختلفا .

فصل : فأما إذا اختلفا وهي مسألة الكتاب فقال البائع المرتهن : كان خمرا في يدك أيها الراهن فقبضته وأنا لا أعلم به على الخيار في فسخ البيع ، وقال المشتري الراهن : قبضته مني عصيرا حلوا فصار في يدك خمرا فلا خيار لك في البيع .

فإن كان لأحدهما بينة أو كان الحال يشهد بصحة دعواه حكم له راهنا كان أو مرتهنا وإن لم يكن لأحدهما بينة ولا في الحال بيان ففيه قولان منصوصان :

أحدهما : أن القول قول الراهن المشتري لأن كون العصر خمرا مثل كونه معيبا في استحقاق الفسخ ، ثم ثبت أن المرتهن لو ادعى تقدم عيب في الرهن وأنكره الراهن كان القول قول الراهن فكذلك إذا ادعى المرتهن تقدم كونه خمرا وأنكره الراهن يجب أن يكون القول قول الراهن .

والقول الثاني وهو أصح : أن القول قول المرتهن البائع لأن كون العصير خمرا يمنع صحة القبض وقول المرتهن : أقبضتنيه خمرا ، إنكار لصحة القبض ، وقول الراهن : أقبضتكه عصيرا ، ادعاء بصحة القبض ، ولو ادعى الراهن على المرتهن صحة القبض وأنكره المرتهن [ ص: 117 ] كان القول قول المرتهن ، كذلك إذا ادعى الراهن على المرتهن أنه صار خمرا بعد القبض وأنكره المرتهن وكان القول قول المرتهن وكان هذا مخالفا لاختلافهما في العيب لأنهما في العيب قد اتفقا على صحة القبض .

فصل : فإذا ثبت توجيه القولين فقد اختلف أصحابنا في موضع القولين من اختلافهما : فقال أبو إسحاق المروزي : القولان في اختلافهما في كونه عصيرا وقت العقد وبعده ، فلا فرق بين أن يدعي المرتهن أنه كان خمرا وقت العقد وبين أن يدعي أنه صار خمرا بعد العقد وقبل القبض في أنهما جميعا على قولين .

وقال أبو علي بن أبي هريرة القولان في اختلافهما بعد العقد وقبل القبض ، فأما إذا اختلفا في كونه عصيرا وقت العقد ، فقال المرتهن : رهنتنيه وكان خمرا وقت العقد كان القول قول المرتهن لأنه ينكر أصل العقد وعلى قول أبي إسحاق وأكثر أصحابنا البصريين .

فصل : فإذا قلنا إن القول قول الراهن مع يمينه ، فإن حلف ثبت ما ادعاه ولا خيار للمرتهن في البيع وإن نكل ردت اليمين على المرتهن ، فإن حلف بعد نكول الراهن ثبت له ما ادعى فإن كان قد ادعى أنه صار خمرا بعد العقد وقبل القبض وأنه قد كان عصيرا وقت العقد فالبيع جائز وهو بالخيار في فسخ البيع وإمضائه .

وإن كان قد ادعى أنه كان خمرا وقت العقد ففي البيع إذا حلف قولان :

أحدهما : باطل .

والثاني : جائز وله الخيار بين فسخ البيع وإمضائه فإن نكل المرتهن أيضا بعد نكول الراهن فلا خيار له في البيع .

فصل : وإذا قلنا إن القول قول المرتهن مع يمينه فإن حلف ثبت له ما ادعى فإن كان قد ادعى أنه كان عصيرا وقت العقد وإنما صار خمرا بعد العقد وقبل القبض كان البيع جائزا وله الخيار في فسخ البيع وإمضائه ، وإن كان قد ادعى أنه كان خمرا وقت العقد ففي البيع قولان :

أحدهما : باطل .

والثاني : جائز ، وله الخيار بين فسخه وإمضائه .

وإن نكل المرتهن ردت اليمين على الراهن ، فإن حلف الراهن بعد نكول المرتهن فلا خيار للمرتهن ، وإن نكل الراهن أيضا ، فهل يحكم بقول المرتهن أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : يحكم للمرتهن بقوله : لأن الراهن قد أسقط حقه بنكوله وقول المرتهن يستند [ ص: 118 ] إلى صورة الرهن وصفته ، ولأن نكول المرتهن بعد الراهن يوجب الحكم بقول الراهن في إسقاط الخيار ، كذلك نكول الراهن بعد المرتهن يوجب الحكم بقول المرتهن في إثبات الخيار فعلى هذا يكون الحكم فيه على ما مضى لو حلف .

والوجه الثاني : لا يحكم للمرتهن بقوله : لأن فيه استئناف حكم بمجرد الدعوى ولا يجوز أن يستأنف حكم بمجرد الدعوى وليس كذلك نكول المرتهن بعد الراهن ، لأن فيه استدامة حكم في إسقاط الخيار وليس فيه استئناف حكم في إثبات الخيار .

فصل : وإذا صار العصير خمرا في يد المرتهن فلم يرقه حتى صار خلا في يد المرتهن ثم اختلفا فقال الراهن : صارت خلا بنفسها ، وقال المرتهن : صارت خلا بالتخليل ، فقد بطل الرهن بدعوى المرتهن : لأنه يقر أنه قد خرج من الرهن خروجا لا يجوز عوده إليه فكان قوله مقبولا فيصير القول قول الراهن أنها استحالت خلا بنفسها وله بيعها والتفرد بثمنها .

ولو قال المرتهن : استحالت خلا بنفسها ، وقال الراهن : صارت خلا بالتخليل ، ففيها وجهان :

أحدهما : أن القول قول المرتهن أنها استحالت بنفسها وتكون رهنا .

والوجه الثاني : أن القول قول الراهن أنها صارت خلا بالتخليل ويبطل الرهن وتحرم على الراهن .

وهذان القولان مخرجان من اختلاف قوليه في إقرار الراهن بجناية العبد المرهون وإنكار المرتهن .

التالي السابق


الخدمات العلمية