الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو باع بما يتغابن الناس بمثله فلم يفارقه حتى جاء من يزيده قبل الزيادة فإن لم يفعل فبيعه مردود " .

قال الماوردي : إذا وكل العدل في بيع الرهن فعليه ما على الوكيل في بيع غير الرهن فيلزمه في البيع إذا كان الإذن مطلقا خمسة شروط :

أحدها : الاجتهاد في توفير الثمن وألا يبيعه بما يتغابن الناس بمثله .

والثاني : أن يبيعه بغالب نقد البلد دون غيره .

والثالث : أن يكون الثمن حالا ولا يكون مؤجلا ولا منجما .

[ ص: 134 ] فهذه الثلاثة شروط في صحة البيع وسقوط الضمان .

والرابع : ألا يسلم المبيع إلا بعد قبض الثمن وهذا شرط في سقوط الضمان وليس بشرط في صحة البيع .

والخامس : أن يكون البيع ناجزا فلا يشترط فيه خيار الثلاث ، وفي هذا الشرط وجهان :

أحدهما : أنه شرط في صحة البيع وسقوط الضمان .

والثاني : أنه استحباب لا تأثير له في البيع ولا في الضمان .

فهذه خمسة شروط تختلف أحكامها على ثلاثة أوجه إلا أن مسألة الكتاب تختص بالشرط الأول منها وهو الغبن في الثمن وفيه دليل على حكم ما يضاهيه .

فصل : فإذا باع العدل الرهن بثمن غبن فيه فعلى ضربين :

أحدهما : أن يكون بما يتغابن الناس بمثله ، مثل أن يكون ثمن الرهن مائة درهم وغبنه مثله عشرة دراهم وقد باع العدل بتسعين درهما ، فهذا بيع جائز ولا ضمان على العدل ، لأن البيع موضوع على المغابنة والمكاسبة والاحتراز مما جرت به العادة من غبينة المثل غير ممكن وكان ذلك معفوا عنه .

والضرب الثاني : أن يكون مما لا يتغابن الناس بمثله ، مثل أن يساوي مائة وغبينة مثله عشرة دراهم ، وقد باعه بخمسين درهما فالبيع باطل لوقوعه على غير الوجه المأذون فيه ويمنع العدل من تسليم الرهن إلى المشتري ، فإن سلمه إلى المشتري صار العدل بالتسليم ضامنا لا بالعقد وعليه استرجاعه من يد المشتري ، فإن فات استرجاعه فقد استتر الضمان في ذمة العدل ، وفي قدر ما يضمنه قولان :

أحدهما : أنه يضمن القدر الذين لا يتغابن الناس بمثله وذلك أربعون درهما ، لأن الضمان إنما يجب فيما حصل فيه التفريط ، والتفريط إنما كان في قدر ما لا يتغابن الناس بمثله ، فأما العشرة التي يتغابن الناس بمثلها فلم يفرط فيها فلم يلزم ضمانها ، أما الخمسون فهو غير مفرط فيها فلم يلزمه ضمانها .

والقول الثاني وهو الصحيح : أنه ضامن لجميع القيمة وذلك مائة درهم ، لأن البيع وقع فاسدا ، فلم يجز تسليم السلعة به ومن سلم سلعة إلى غير مستحقها كان ضامنا لجميع قيمتها .

[ ص: 135 ] فصل : فإذا ثبت توجيه القولين فإن قلنا : عليه ضمان الغبينة وحدها وهي أربعون درهما ، فلا يخلو حاله من أحد أمرين :

إما أن يكون قد قبض من المشتري الخمسين التي هي الثمن أو لم يقبض ، فإن كان قد قبض الخمسين درهما الثمن فقد برئ المشتري منها لأنه دفعها إلى مؤتمن عليها وليس على العدل ضمانها لأنه غير متعد فيها ثم للراهن أن يرجع بالغبينة إن شاء على العدل لأنه بدفع الرهن صار ضامنا لها وإن شاء على المشتري لأنه بقبض الرهن صار ضامنا لها .

فإن رجع على المشتري رجع عليه بخمسين درهما ، ولا يسقط عنه العشرة التي يتغابن الناس بها لأنه بالقبض عن بيع فاسد ضامن على الصحيح من المذهب ضمان غصب .

فإذا غرم المشتري ذلك لم يرجع على العدل بشيء .

فإن رجع الراهن على العدل دون المشتري رجع عليه بأربعين درهما : لأنه يضمن بالتفريط فلم يضمن إلا قدر ما فرط فيه وذلك أربعون درهما ، ويرجع على المشتري بالعشرة الباقية من ضمان الغصب لأن المشتري ضامن لها فيصير الراهن راجعا على العدل بأربعين درهما وعلى المشتري بعشرة دراهم ، ثم للعدل أن يرجع على المشتري بالأربعين التي غرمها لأن المشتري ضامن لها فهذا الكلام فيه إذا كان العدل قد قبض الخمسين الثمن .

فأما إن كان العدل لم يقبض من المشتري الثمن فالراهن بالخيار بين أن يرجع على المشتري أو على العدل ، فإن رجع على المشتري فله أن يرجع عليه بمائة درهم وهي جميع القيمة ولا يرجع المشتري بشيء منها على العدل .

وإن رجع الراهن على العدل فله أن يرجع عليه بأربعين درهما لا غير لأنها القدر الذي ضمنه بالتفريط ويرجع على المشتري بباقي القيمة وهو ستون درهما ، وللعدل أن يرجع على المشتري بالأربعين التي غرمها لأنه ضامن لها .

فصل : وإن قلنا إن العدل ضامن لجميع القيمة ، فللراهن أن يرجع بها على العدل إن شاء أو على المشتري إن شاء ، لأن كل واحد منهما ضامن ضمان غصب ولا يبرأ المشتري على هذا من شيء يدفعه إلى العدل بخلاف ما قلنا من قبل ، لأن العدل صار ضامنا للكل بالتعدي فصار خارجا من الأمانة واستوى حاله وحال المشتري في وجوب الضمان عليهما للراهن فلم يبرأ أحدهما بدفع ما عليه إلى صاحبه ، ألا ترى أنه لا يبرأ العدل بدفع ما عليه إلى المشتري ، كذلك لا يبرأ المشتري بدفع ما عليه إلى العدل ، وليس كذلك إذا كان العدل ضامنا لقدر الغبينة لا غير لأن ما سوى الغبينة ليس بمضمون عليه فكان أمينا فيه .

[ ص: 136 ] وكذلك لو كان العدل قد قبض من المشتري الثمن والغبينة لم يبرأ المشتري من الغبينة لضمان العدل لها ، وبرئ من الثمن لأنه أمين فيه .

فإذا ثبت أن للراهن أن يرجع على أيهما شاء بجميع المائة التي هي قيمة الرهن ، فإن رجع بها على العدل فللعدل أن يرجع بها على المشتري إلا أن يكون العدل قد قبضها من المشتري ، فلا يرجع بها عليه ، وإن كان قد قبض بعضها رجع عليه بما بقي منها ، فإن رجع الراهن على المشتري بالمائة فليس للمشتري أن يرجع بها على العدل إلا أن يكون قد دفعها إليه ، أو دفع إليه بعضها فله أن يرجع عليه بما كان فسد دفعه إليه منها .

فصل : فأما إذا باع العدل الرهن بثمن مثله وذلك بمائة درهم ثم بذلت له في الثمن زيادة عشرة دراهم لرغبة راغب ، فإن كانت هذه الزيادة المبذولة له بعد التفرق لم يلزمه قبولها ، لتمام البيع بالافتراق ، وإن كانت هذه الزيادة المبذولة له قبل التفرق وهي مسألة الكتاب فعليه قبولها لأن البيع لم ينبرم والفضل في الثمن بالبذل قد تعين .

فإن لم يقبل الزيادة وأقبض الرهن بالبيع الأول فمذهب الشافعي أنه يكون ضامنا لما لو باع بما لا يتغابن الناس بمثله ، ويكون البيع الأول باطلا .

وقال بعض أصحابنا : لا يبطل البيع بهذه الزيادة ولا ضمان على العدل لأن قبولها غير لازم له ، قال : وإنما كان قبولها غير لازم له لأنها قد تبذل لرغبة وقد تبذل لفساد على المشتري الأول ، فلم يكن بذلها متحققا فلم يكن قبولها لازما .

وهذا غلط لأن بذل الزيادة في خيار المجلس كبذلها في حال العقد فلما كان قبولها في حال العقد لازما ، وإن لم يكن بذلها متحققا وجب أن يكون قبولها في خيار المجلس واجبا وإن لم يكن بذلها متحققا .

فإذا ثبت أن قبولها واجب وجب أن يكون البيع بترك قبولها باطلا ، وإذا بطل البيع وجب الضمان على العدل بتسليم الرهن وإذا ثبت أنه ضامن ففي قدر ضمانه قولان :

أحدهما : يضمن قدر الزيادة لا غير وذلك عشرة دراهم ، فعلى هذا إذا غرمها العدل لم يرجع بها على المشتري لأن ضمان المشتري ضمان غصب وتلك الزيادة المبذولة لا تضمن بالغصب ، وعلى هذا إن دفع المشتري الثمن إلى العدل برئ منه لأنه ليس بضامن فكان أمينا عليه .

والقول الثاني : أن العدل ضامن به للكل وذلك مائة وعشرة دراهم فعلى هذا لا يبرأ المشتري بدفع الثمن إلى العدل لأنه ضامن له ، فبطل أن يكون أمينا فيه .

[ ص: 137 ] وللراهن أن يرجع على أيهما شاء ، فإن رجع على العدل رجع بمائة وعشرة دراهم ويرجع العدل على المشتري بمائة درهم ولا يرجع عليه بالعشرة الزائدة ، وإن رجع الراهن على المشتري رجع عليه بمائة درهم ورجع على العدل بعشرة دراهم وهي الزيادة التي بذلت له ، وإذا غرم المشتري لم يكن له أن يرجع بها على العدل .

فصل : وليس الراهن وحده مستحقا للرجوع بها دون المرتهن ولا المرتهن دون الراهن ولكن الراهن والمرتهن جميعا يستحقان الرجوع بها ، أما الراهن فبحق ملكه ، وأما المرتهن فبحق وثيقته .

وإذا كان كذلك فلا يخلو حال القابض من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون الراهن والمرتهن جميعا قد اجتمعا على قبضها فقد برئ العدل والمشتري منها ثم للراهن والمرتهن فيها ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يتفقا على تركها رهنا فتكون رهنا على ما اتفقا عليه .

والحال الثانية : أن يتفقا على أن تكون قصاصا فتكون قصاصا كما اتفقا .

والحال الثالثة : أن يختلفا فيدعو أحدهما إلى أن تكون رهنا ويدعو الآخر إلى أن تكون قصاصا ، فالقول قول من دعا إلى أن تكون قصاصا إذا كان الحق حالا ، لأن الإذن بالبيع إنما كان لقضاء الحق ولم يكن لترك ذلك في الرهن وليس فساد البيع موجبا لإبطال هذا الحكم .

والقسم الثاني : أن يكون القابض لها هو الراهن دون المرتهن ، فيكون للمرتهن أن يرجع بها على العدل دون المشتري ، وإنما كان كذلك لأن المرتهن يرجع بحق الرهن والعدل ضامن لحق الرهن دون المشتري وإنما يضمن المشتري بحق الملك ، فلذلك كان للمرتهن أن يرجع على العدل لأنه ضامن لحق الرهن ، ولم يكن له أن يرجع على المشتري لأنه ضامن لحق الملك .

فإن قيل : أليس لو جنى على الرهن كان للمرتهن أن يرجع على الجاني بالأرش وإن كان الجاني ضامنا لحق الملك ؟ فقيل : إنما كان للمرتهن أن يرجع على الجاني لأن الجاني ضامن للحقين معا ، إذ ليس يجب ضمان حق الرهن على غير الجاني وليس كذلك في بيع العدل لأن العدل ضامن لحق الرهن ، فلم يضمنه المشتري .

فإذا رجع المرتهن على العدل لم يكن للعدل أن يرجع الراهن بما دفعه إلى المرتهن : لأن العدل لو كان دفع إلى المرتهن في الابتداء كان للراهن أن يرجع عليه بما دفع ، ويصير العدل متطوعا بما دفعه إلى الراهن .

[ ص: 138 ] والقسم الثالث : أن يكون القابض لها هو المرتهن دون الراهن فيكون للراهن أن يرجع بها على العدل إن شاء ، وعلى المشتري إن شاء لأن الراهن يرجع بحق الملك والمرتهن يرجع بحق الرهن ، والعدل ضامن لحق الملك وحق الرهن ، والمشتري ضامن لحق الملك ، فلذلك كان للراهن أن يرجع على من شاء من العدل والمشتري لأنه قد صار كل واحد منهما ضامنا بحق الملك ، ولم يكن للمرتهن أن يرجع إلا على العدل دون المشتري لأنه يرجع بحق الرهن ، والعدل ضامن لحق الرهن دون المشتري .

فإذا ثبت أن للراهن أن يرجع على من شاء من العدل والمشتري نظر في المرتهن القابض أولا فإن كان قد قبض ذلك من المشتري فللمشتري أن يرجع عليه بذلك لأنه لا حق للمرتهن على المشتري ، فإن كان قد قبض من العدل لم يكن للعدل أن يرجع بها عليه لأن العدل لو كان قد دفع إلى الراهن في الابتداء لم يبرأ من حق المرتهن ، وكان للمرتهن أن يرجع عليه ويصير العدل متطوعا بقضاء دين المرتهن .

فهذا الكلام في إخلاله بالشرط الأول .

فصل : وأما إخلاله بالشرط الثاني ، وهو بيعه بغالب نقد البلد ، فإذا باعه بغير الغالب من نقد البلد من غير أن يأذن الراهن والمرتهن به فبيعه باطل مردود فإن فات رده كان العدل ضامنا لجميع القيمة قولا واحدا بخلاف ما مضى من الغبينة في ثمنه على أحد القولين .

وإنما كان هاهنا ضامنا لجميع قيمته لأنه ليس جزء منه متميزا عن الضمان وسببه ، والغبينة هناك متميزة مقدرة فجاز أن يختص الضمان بها على أحد القولين .

فإذا ثبت أنه ضامن لجميع القيمة فهو على ما مضى من مطالبة العدل والمشتري وما يتفرع على ذلك .

فصل : وأما إخلاله بالشرط الثالث وهو حلول الثمن ببيعه بثمن مؤجل فبيعه باطل فإن فات رده كان مضمونا بقيمته دون ثمنه سواء كانت أكثر من الثمن أو أقل لأن بطلان البيع يبطل حكم الثمن ، ويوجب اعتبار القيمة ويكون كل واحد من العدل والمشتري ضامنا لجميع قيمته ، وللراهن الخيار في مطالبة كل واحد منهما ولا يبرأ المشتري بدفع القيمة إلى العدل على ما ذكرنا .

فصل : وأما إخلاله بالشرط الرابع وهو الامتناع من تسليمه قبل قبض ثمنه فيسلمه إلى المشتري قبل قبض ثمنه ، فإنه مضمون على كل واحد من العدل والمشتري بالثمن المسمى دون القيمة لصحة العقد ولزوم الثمن فيه وللراهن أن يرجع على كل واحد منهما بالثمن ، فإن [ ص: 139 ] دفع المشتري الثمن إلى العدل برئ المشتري منه وإن كان العدل ضامنا له ، لأن ضمان العدل ليس بضمان غصب ، وإنما هو ضمان تفريط سببه تأخير قبض الثمن من المشتري فلم يجز أن يكون قبض العدل مانعا من براءة المشتري ، وليس كذلك فيما ذكرنا من الفصول الماضية ، لأن المشتري لا يبرأ بما يدفعه إلى العدل إذا ضمنه العدل : لأن ضمانه ضمان غصب .

فصل : وأما إخلاله بالشرط الخامس وهو بيعه ناجزا بغير خيار شرط فيبيعه باشتراط خيار الثلاث ، فإن قلنا : إنه استحباب وليس بواجب ، فلا يبطل البيع ولا يوجب الضمان ، وإن قلنا : إنه واجب كان البيع باطلا فإن فات الرد كان كل واحد من العدل والمشتري ضامنا للقيمة دون الثمن ، ولا يبرأ المشتري بدفع القيمة إلى العدل لأنه ضامن لها ضمان غصب والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية