الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أذن له برهنه فجنى فبيع في الجناية فأشبه الأمرين أنه غير ضامن وليس كالمستعير الذي منفعته مشغولة بخدمة العبد عن معيره " .

قال الماوردي : صورة هذه المسألة : في رجل استعار من رجل عبدا ليرهنه عند رجل بحق له عليه فهذا جائز لأمرين :

[ ص: 168 ] أحدهما : أنه لما جاز أن يملكه رقبة عبده جاز أن يملكه الانتفاع برقبته .

والثاني : أنه لما جاز أن يملكه حق المرتهن موثقا في ذمة نفسه جاز أن يجعله موثقا في رقبة عبده لاستواء تصرفه في ذمة نفسه ورقبة عبده .

فإذا ثبت جوازه فقد اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في حكمه على قولين نص عليهما في الرهن الصغير والرهن القديم .

أحد القولين أنه جار مجرى العارية لأمرين أحدهما أنه قد أرفق الراهن منفعته فيما استأذن به من رهن رقبته فوجب أن يكون عارية كما لو أذن له في الانتفاع بخدمته .

والثاني : أنه لما كان العبد باقيا على ملك سيده وكانت ذمة السيد برية من حق مرتهنه انصرف عن الضمان لبراءة الذمة إلى العارية لاختصاصه بالمنفعة .

والقول الثاني : أنه يجري مجرى الضمان في رقبة عبده لأمرين :

أحدهما : أنه لما كان مالكا لرقبة عبده كملكه لذمة نفسه ثم كان لو جعل دين المرتهن موثقا في ذمة نفسه كان ضمانا ولم يكن عارية وجب إذا جعل دين المرتهن موثقا في رقبة عبده أن يكون ضمانا لا تكون عارية .

والثاني : أن العارية تختص بالمنفعة والضمان يختص بالوثيقة فلما كانت المنفعة على ملك سيده لم يكن عارية ووجب أن يكون ضمانا لاختصاصه بالوثيقة .

فصل : فإذا تقرر توجيه القولين فرهنه صحيح سواء قيل إنه يجري مجرى العارية ، أو قيل إنه يجري مجرى الضمان .

وقال أبو العباس بن سريج : إنه يصح رهنه إذا قيل إنه يجري مجرى الضمان فأما إذا قيل إنه يجري مجرى العارية فلا يصح لأن للمعير أن يرجع في عاريته والرهن يمنع من الرجوع بعد تمامه فلما تنافيا حكم العارية والرهن لم يصح إعارة الرهن ، وهو غير صحيح لأن العارية تتنوع نوعين جائزة ولازمة ، فالجائزة يجوز الرجوع فيها ، واللازمة لا يجوز الرجوع فيها كإعارة حائط لوضع جذوع وإعارة أرض لدفن ميت فكذا إعارة عبد الرهن .

فصل : فإذا ثبت جواز رهنه على القولين معا ، انتقل الكلام إلى التفريع عليهما ، فإذا قيل إنه يجري مجرى العارية جاز أن يأذن له في رهنه وإن كان غير عارف بجنس الحق وقدره ووصفه ومالكه لأن الجهالة بمنفعة العارية لا تقدح في صحتها ، فلو أذن له على هذا القول أن يرهنه في قدر معلوم من جنس معلوم على صفة معلومة عند رجل معين لم يجز لمستعيره أن [ ص: 169 ] يخالف نعت معيره ، لأن العارية لمنفعة مخصوصة لا يجوز الانتفاع بها في غير تلك المنفعة .

وإذا قيل إنه يجري مجرى الضمان لم يجز رهنه إلا بعد معرفة المالك لجنس الحق وقدره ووصفه ، وفي وجوب معرفة مالك الحق وجهان :

فأما جنس الحق فهو أن يعلم هل ذلك دراهم أو دنانير ليعلم جنس ما ضمنه في رقبة عبده فيصح ضمانه ، وأما قدر الحق فهو أن يعلم ذلك مائة أو ألف لتنتفي الجهالة عما ضمنه فيصح ضمانه .

وأما وصف الحق فهو أن يعلم هل ذلك حال أو مؤجل : لأن الجهالة بوصفه كالجهالة بقدره وجنسه ، وأما معرفة مالك الحق فعلى وجهين من اختلاف أصحابنا في الضمان هل تكون معرفة المضمون له شرطا في صحة الضمان أم لا ؟ وإن قلنا معرفة المضمون له شرط في صحة الضمان فلا بد من معرفة المرتهن ، وإن قلنا ليست شرطا في صحة الضمان جاز جهله بالمرتهن .

فصل : فإذا أذن له في رهنه على ما وصفنا فرهنه كذلك على الأوصاف المأذون له فيها صح الرهن ولزم ، وإن خالفه في شيء منها لم يخل من أربعة أحوال :

إما أن يخالفه في الجنس أو يخالفه في القدر أو يخالفه في الوصف أو يخالفه في المالك ، فإن خالفه في الجنس فمثاله أن يأذن له في رهنه بدنانير فيرهنه بدراهم أو في دراهم فيرهنه بدنانير فالرهن باطل على القولين معا ، لأننا إن قلنا إنه يجري مجرى الضمان فمن ضمن دنانير لم يلزمه غيرها ، وإن قلنا إنه يجري مجرى العارية فمن أعار لمنفعة مخصوصة لم يجز أن ينتفع بالعارية في منفعة غيرها ، وإن خالفه في القدر فمثاله أن يأذن له في رهنه بألف فيرهنه بأقل أو بأكثر فهذا ينظر فإن رهنه بأقل من ألف جاز رهنه لأنه بعض المأذون فيه ، وإن رهنه بأكثر من ألف فالرهن باطل فيما زاد على الألف ، وهل يبطل في الألف أم لا ؟ على قولين بناء على تفريق الصفقة وإن خالفه في الصفة فمثاله أن يأذن له في رهنه بدين حال فيرهنه في مؤجل أو في مؤجل فيرهنه في حال فالرهن باطل على القولين .

لأنه إن أذن له أن يرهنه في حال فرهنه في مؤجل فإن قلنا إنه يجري مجرى العارية لم يجز لأن من أعار شيئا لينتفع به في الحال لم يجز أن ينتفع به أكثر من ذلك .

وإن قلنا إنه يجري مجرى الضمان لم يجز لأنه لم يستدم الضمان إلى تلك المدة .

وإن أذنه أن يرهنه في مؤجل فرهنه في حال فإن قلنا يجري مجرى العارية لم يجز ، لأن [ ص: 170 ] من أعار شيئا لينتفع به بعد مدة لم يجز أن ينتفع قبل تلك المدة ، وإن قلنا يجري مجرى الضمان لم يجز لأن من ضمن شيئا إلى مدة لم يلزمه قبل تلك المدة .

وإن خالفه في المالك فمثاله أن يأذن له في رهنه عند زيد فرهنه عند غيره فالرهن باطل إن قلنا إنه يجري مجرى الضمان ، لأن من ضمن لزيد لم يلزمه الضمان لغيره ، وإن قلنا إنه يجري مجرى العارية فالرهن جائز : لأنه وإن صار مرهونا عند غير من أذن له ، فليس يجب أن يكون الرهن موضوعا على يد من ارتهنه وإذا لم يجب لم يقع الفرق بين أن يكون حق الارتهان لزيد أو غيره : لأنه قد يمكن ألا يوضع على يد مرتهنه ويوضع على يد عدل يرضيان به .

فصل : فإذا ثبت أن رهنه لا يصح إذا خالفه فرهنه رهنا صحيحا كما أذن له ثم أراد أن يأخذه بفكاكه من الرهن وخلاصه ، فلا يخلو حال الحق المرهون فيه من أحد أمرين :

إما أن يكون حالا أو يكون مؤجلا ، فإن كان الحق حالا فله أن يأخذه بخلاصه ويطالبه بفكاكه إن جرى مجرى العارية ، فللمعير الرجوع في العارية ، وإن جرى مجرى الضمان فللضامن أخذ المضمون عنه بفكاكه مما ضمنه بأمره ، وإن كان الحق مؤجلا فهل له أن يأخذه بفكاكه أم لا ؟ على قولين إن قلنا إنه يجري مجرى العارية فله أن يأخذه بفكاكه : لأن للمعير أن يرجع في عاريته ، وإن قلنا إنه يجري مجرى الضمان فليس له أن يأخذ بفكاكه لأن الضامن إلى أجل ليس له أخذ المضمون عنه بفكاكه قبل حلول الأجل .

فصل : فإذا حل الأجل لم يخل حال العبد المرهون من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يفك من الرهن والثاني أن يباع في الرهن والثالث أن يتلف في الرهن .

فأما القسم الأول وهو أن يفك من الرهن فلسيده أن يسترجعه ويسقط عن الراهن المستعير ضمانه ، فإن كان الراهن فكه من الرهن بقضاء أو بإبراء المرتهن له ، خلص العبد لسيده وبرئ الراهن عن ضمانه وإن كان السيد قد فكه من الرهن بقضاء الحق نظر فإن فكه بأمر الراهن فله أن يرجع على الراهن بما افتكه به من الحق قليلا كان الحق أم كثيرا ، وإن افتكه بقضاء الحق من غير أمر الراهن فهل له أن يرجع على الراهن بما افتكه به من الحق أم لا ؟ على قولين بناء على ما ذكرنا من القولين ، فإن قلنا إنها تجري مجرى الضمان فله أن يرجع عليه بالحق الذي افتكه كمن ضمن عنه حقا بأمره فله الرجوع بما غرمه في ضمانه ، وإن قلنا إنه يجري مجرى العارية فلا رجوع له بالحق الذي افتكه لأن العارية توجب استرجاع ما أعاره ولا توجب غرم ما تعلق بالمعار .

[ ص: 171 ] فصل : وأما القسم الثاني وهو أن يباع في الرهن وذلك قد يكون إما لكون الراهن معسرا وإما ليصير به موسرا فإذا بيع وقضى به الحق المرهون فيه كان مضمونا على الراهن على القولين معا لأنه إن جرى مجرى العارية فالعارية مضمونة على مستعيرها وإن جرى مجرى الضمان فالضامن يستحق الرجوع بما أدى ، فإذا كان كذلك فلا يخلو حال ما بيع به من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يباع بمثل قيمته .

والثاني : أن يباع بأكثر من قيمته .

والثالث : أن يباع بأقل من قيمته .

فإن بيع بمثل قيمته وهو أن تكون قيمته ألفا فيباع بألف فهو مضمون على الراهن المستعير بألف على القولين معا ، لأنه إن جرى مجرى العارية فالعارية مضمونة بالقيمة وهي ألف وإن جرى مجرى الضمان فالضامن يستحق الرجوع بما أدى وهو ألف .

فلذلك استحق الرجوع بألف على القولين معا ، وإن بيع بأكثر من قيمته وهو أن تكون قيمته ألفا فيباع بألف ومائة ففيما يضمن الراهن المستعير ويرجع به على المالك المعير قولان :

أحدهما : أنه يستحق الرجوع بألف إذا قيل إنه يجري مجرى العارية ، لأن العارية مضمونة بالقيمة دون ما زاد عليها .

والقول الثاني : أنه يستحق الرجوع بألف ومائة ، إذا قيل إنه يجري مجرى الضمان : لأن المضمون عنه يضمن القدر المؤدى عنه .

وإن بيع بأقل من قيمته وهو أن تكون قيمته ألفا فيباع بتسعمائة ففي قدر ما يضمنه الراهن المستعير ويستحق أن يرجع به المالك المعير قولان :

أحدهما : أنه يستحق الرجوع بألف إذا قيل إنه يجري مجرى العارية لأن العارية مضمونة بجميع القيمة وهي ألف والقول الثاني أنه يستحق الرجوع بتسعمائة إذا قيل إنه يجري مجرى الضمان : لأن المضمون عنه يضمن القدر المؤدى عنه وهو تسعمائة ولو بقي للمرتهن بقية من حقه بعد قبض الثمن لم يكن الرجوع بها على المعير سواء قيل إنه يجري مجرى العارية أو مجرى الضمان لأنه إن جرى مجرى العارية فالمعير لا يلزمه غرم ، وإن جرى مجرى الضمان فهو إنما يضمن ذلك في رقبة عبده لتعلق حق الجناية برقبته فيما ضاقت [ ص: 172 ] عنه رقبة العبد فهو غير مضمون عليه ، فلو فضل من ثمنه بعد قضاء الحق فضلة كان المالك أحق بها ويسقط عن الراهن المستعير ضمانها .

فصل : وأما القسم الثالث : وهو أن يتلف في الرهن فهذا على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون تلفه بالموت من غير جناية عليه .

والثاني : أن يكون تلفه بجناية جنيت عليه فمات منها .

والثالث : أن يكون تلفه بجناية جناها واقتص منه أو بيع فيها .

فأما القسم الأول وهو أن يموت في الرهن حتف أنفه فهل يكون مضمونا على راهنه أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : لا يكون مضمونا عليه إذا قيل إنه يجري مجرى الضمان لأن المضمون عنه لا يستحق عليه إلا ما أدى عنه فعلى هذا يكون تالفا من مال مالكه .

والقول الثاني : أنه يكون مضمونا إذا قيل إنه يجري مجرى العارية ، لأن العارية مضمونة على مستعيرها فعلى هذا في كيفية ضمانه وجهان :

أحدهما : يضمن قيمته يوم التلف .

والثاني : يضمنه أكثر ما كانت قيمته من يوم القبض إلى يوم التلف ، فإذا قبض القيمة اختص بها المالك ولم يتعلق بها حق المرتهن لبطلان الرهن بتلفه من غير جناية ولا غصب ، فإن قيل : أليس إذا كان تلف بالقيمة كالجناية كانت القيمة رهنا مكانه فهلا كانت القيمة المأخوذة من المستعير في هذا الموضع رهنا مكانه ؟ قيل : الفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن الجاني على الرهن متعد في حق المرتهن فتعلق بأرش جنايته حق المرتهن ، والمستعير غير متعد في حق المرتهن فلم يتعلق بما يغرمه حق المرتهن .

والثاني : أن أرش الجناية وجب بالإتلاف فلم يبطل الرهن بالإتلاف وكانت القيمة في الرهن قائمة مقام الرهن ، وقيمة العارية واجبة بالعقد لا بالإتلاف وإنما يستقر وجوبها بالتلف فلم تكن القيمة رهنا يبطل بالتلف كما لو بيع بثمن قبل حلول الأجل لم يكن الثمن المأخوذ بالعقد رهنا وبطل الرهن بالبيع .

فصل : وأما القسم الثاني وهو أن يكون تلفه بجناية جنيت عليه فمات منها فهذا على ضربين :

[ ص: 173 ] أحدهما : أن يكون بجناية عمدا يوجب القود .

والثاني : أن تكون جناية خطأ توجب المال .

فإن كانت عمدا يوجب القود فللسيد أن يقتص من الجاني فإذا اقتص منه فقد استوفى حقه ولا مطالبة له على الراهن المستعير على القولين معا سواء قيل إنه يجري مجرى الضمان أو مجرى العارية : لأنه قد استوفى بالقصاص حق الجناية وبدل الملك .

وإن كانت الجناية خطأ توجب المال كان الجاني ضامنا لأرشها ، وهل يكون الراهن المستعير ضامنا أم لا ؟ على قولين أحدهما لا يكون ضامنا .

وهذا على القول الذي يقول إنه يجري مجرى الضمان ، فعلى هذا للمالك مطالبة الجاني بالأرش فإذا استحقه وضعه رهنا مكانه ، لأن أرش الجناية على الرهن بكونه رهنا مكانه .

والقول الثاني : أن الراهن المستعير يكون ضامنا على القول الذي يقول يجري مجرى العارية فعلى هذا يكون المالك بالخيار بين مطالبة الجاني أو الراهن المستعير فإن أغرم الجاني لم يكن للجاني أن يرجع على المستعير .

وكان الأرش رهنا مكانه إلا أن يكون الأرش أكثر من قيمته فله أن يختص بأخذ الفاضل على قيمته وتكون له القيمة لا غير رهنا مكانه .

فإن أغرم المستعير فلا يخلو حال أرش الجناية من أحد أمرين :

إما أن يكون بقدر قيمته من غير زيادة أو يكون أكثر من قيمته .

فإن كان أرش الجناية بقدر قيمته من غير زيادة فله أن يغرم المستعير جميعها وللمستعير إذا غرمها أن يرجع على الجاني بها ، وإن كان أرش الجناية أكبر من قيمته فله أن يغرم المستعير قدر قيمته دون الزيادة ، ويغرم الجاني ما زاد على قيمته من الأرش ويرجع المستعير بما غرمه من القيمة على الجاني لضمانه لها بالجناية ثم تكون القيمة رهنا مكانه دون الزيادة .

فصل : وأما القسم الثالث وهو أن يكون تلفه بجناية جناها فاقتص منه أو بيع فيها وهي مسألة الكتاب وهي على ضربين :

أحدهما : أن تكون الجناية قد أتت على جميعه وذلك بأحد أمرين :

إما أن يكون القصاص في نفسه ، أو يكون الأرش الذي بيع فيه مستوعبا لقيمته فإذا كان كذلك فهل يكون الراهن المستعير ضامنا قيمته أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : لا يكون ضامنا إذا قيل إنه يجري مجرى الضمان .

[ ص: 174 ] والثاني : يكون ضامنا لقيمته إذا قيل إنه يجري مجرى العارية وفي كيفية ضمانه وجهان مضيا ، فإذا غرم القيمة اختص المالك بها .

والضرب الثاني أن تكون الجناية قد أتت على بعضه وذلك بأحد وجهين :

إما أن يكون القصاص في طرف من أطرافه أو يكون الأرش الذي بيع فيه يقابل قيمة بعضه ، فإذا كان كذلك كان الباقي رهنا بحاله ، وهل يكون الراهن المستعير ضامنا لما تلف منه أم لا ؟ على قولين والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية