الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما القسم الثاني وهو أن يصدق أحدهما ويكذب الآخر ، فيقول : رهنته من فلان وأقبضه دون غيره ، فلا يخلو حال المكذب من أحد أمرين :

إما أن يكون له بينة ، أو لا يكون له بينة .

فإن لم يكن له بينة فالقول قول الراهن المقر من كون العبد رهنا عند المصدق ، وهل عليه اليمين أم لا ؟ على قولين ، المنصوص منهما في هذا الموضع أنه لا يمين عليه : لأن اليمين تجب زجرا للمستحلف ليرجع عنها فيحكم برجوعه ، وهذا الراهن لو رجع عن إقراره لم يحكم برجوعه ، فلم يكن لوجوب اليمين عليه فيه وجه .

والقول الثاني : وهو مخرج من قوله في الإملاء في الزوجة إذا أنكحها الوليان وصدقت أحد الزوجين أن عليها اليمين في أحد القولين ، وفي الراهن إذا أقر بجناية عبده المرهون وقبل قوله أن عليه اليمين وإن لم يقبل رجوعه ، ووجه وجوب اليمين عليه أنه قد يستفاد بها إن نكل أن ترد على المكذب فيستحق بها إن حلف ما سنذكره ، وإذا ثبت هذان القولان في وجوب اليمين عليه ، فإن قلنا : لا يمين عليه أو عليه اليمين فحلف كان العبد رهنا في يد المصدق ، وإن قلنا عليه اليمين فنكل عنها لم يخل حاله من أحد أمرين :

إما أن ينكل عن اليمين ويعترف للمكذب ، أو ينكل عنها ولا يعترف للمكذب ، فإن نكل عنها واعترف للمكذب لم ترد اليمين على المكذب لحدوث الاعتراف له ، ويصير الراهن بهذا الاعتراف راجعا عن الأول مقرا للثاني فلم يقبل رجوعه عن الأول ، وكان العبد رهنا بيده لما تقدم من إقراره ، وهل يغرم قيمة الرهن للثاني أم لا ؟ على وجهين مخرجين من [ ص: 226 ] اختلاف قوليه فيمن أقر في دار بيده لزيد ثم أقر بها لعمرو ، وهل يغرم قيمتها لعمرو أم لا ؟ على قولين خرج منهما هذان الوجهان :

أحدهما : عليه غرم قيمة العبد يكون رهنا بيد الثاني لتفويته الرهن عليه بإقراره المتقدم .

والوجه الثاني وهو أصح في هذا الموضع : أنه لا غرم عليه : لأنه قد أقر بما لزمه ولم يتلف عليه مالا فيلزمه غرمه ، وهذا إن نكل واعترف ، فأما إن نكل ولم يعترف فإن اليمين ترد على المكذب ، فإن نكل عنها كان العبد رهنا بيد المصدق ولا شيء للمكذب ، وإن حلف المكذب ردت اليمين عليه وكانت يمينه بعد نكول الراهن عنها بمنزلة إقراره للأول فاستويا ، وإذا كان كذلك فقد حكاهم ابن أبي هريرة ، فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الرهن منسوخ ، لأن جميعه لا يصح أن يكون مرهونا عند كل واحد منهما .

والوجه الثاني : أن العبد يجعل رهنا بينهما نصفين ، لأنهما فيه متساويان .

والوجه الثالث : أن العبد رهن للأول لما تقدم من إقراره ، وعليه أن يغرم قيمته وتكون رهنا بيد الثاني لأجل اعترافه ، فهذا الحكم فيه إذا لم يكن للمكذب بينة ، فأما إن كانت للمكذب بينة تشهد له فلا يخلو حال المصدق من أحد أمرين :

إما أن يكون له بينة تعارض بينة المكذب أو لا تكون له بينة ، فإن لم تكن له بينة حكم للمكذب ببينته ، وكان العبد رهنا بيد المكذب دون المصدق ، لأن البينة أولى من الإقرار ، وإن كان للمصدق بينة سمعت لا على الراهن : لأنه مقر والمقر لا تسمع عليه البينة بإقراره ، ولكن تسمع في معارضة بينة المكذب ، فإذا تعارضت قوى المصدق بالإقرار له فحكم له لقوله ، وسقطت البينتان لتعارضهما ، وكان العبد رهنا بيد المصدق ، وهذا حكم القسم الثاني في تصديق أحدهما ويكذب الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية