الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما القسم الثالث : وهو أن يصدقهما معا فيقول : قد رهنته من كل واحد منكما وأقبضته ، فمعلوم أن ذلك غير ممكن ، إلا أن يتقدم أحدهما على الآخر ، والمتقدم منهما أحق برهنه من المتأخر ، وإذا كان كذلك لم يخل حال الراهن من أحد أمرين :

إما أن يعلم المتقدم منهما أو لا يعلم ، فإن قال كنت علمت المتقدم فيهما فالقول قوله مع يمينه ما لم يكن لواحد من المرتهنين بينة ، وإنما لزمه اليمين قولا واحدا : لأنه لو رجع عنهما وعن الأول منها قبل منه فلذلك لزمته اليمين ، وإذا كانت اليمين لازمة له لم يخل من أحد أمرين :

إما أن يحلف أو ينكل ، فإن حلف فمذهب الشافعي أن الرهن مقسوم وسواء كان الرهن في يده أو [ ص: 227 ] في يد أحد المرتهنين ، لاستوائهما في الدعوى ، وسقوط دعويهما باليمين ، وفي الرهن وجه آخر لبعض أصحابنا أنه لا ينفسح يمين الراهن : لأن يمينه لم تكن لنفي الرهن ، وإنما كانت لنفي العلم فلم يجز أن يبطل بها الرهن ، وإذا لم يبطل الرهن بيمينه كان الحكم فيه كما لو نكلا عن اليمين وجب ردها على المرتهنين ولها ثلاثة أحوال :

أحدها : أن ينكلا عنها ، فالرهن حينئذ مفسوخ لنكولهما ، والعبد في يد مالكه غير مرهون .

الحالة الثانية : أن يحلف أحدهما وينكل الآخر ، فيقضى للعبد رهنا في يد الحالف منها دون الناكل .

والحالة الثالثة : أن يحلفا معا ففيه وجهان :

أحدهما : أن الرهن مفسوخ لتعارض بينتهما .

والثاني : أنه رهن بينهما لتساويهما ، وهذا حكم الرهن إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر ، فأما إذا علم تقدم أحدهما على الآخر ، قال هو فلان دون فلان ، فلا يخلو حال العبد المرهون من أربعة أقسام :

أحدها : أن يكون في يد الراهن .

والثاني : أن يكون في يد أحد المرتهنين .

والثالث : أن يكون في يد المرتهنين جميعا .

والرابع : أن يكون في يد أجنبي .

فإن كان في يد الراهن فالقول قوله ، ويكون رهنا لمن أقر له ما لم يكن للآخر بينة ، وهل عليه التمييز أم لا ؟ على ما ذكرنا من القولين ، أحدهما : لا يمين عليه : لأنه لو رجع لم يقبل رجوعه .

والثاني : عليه اليمين زجرا له لينكل عنها فترد على الآخر .

فإن قيل : لا يمين عليه أو عليه اليمين فحلف كان العبد رهنا في يد المقر له بالتقدم دون الآخر ، وإن قيل : عليه اليمين فنكل عنها ردت على الآخر ، فإن نكل عنها كان العبد رهنا بيد المقر له بالتقدم ، وإن حلف ففي الرهن ثلاثة أوجه مضت .

أحدها : أن يكون الرهن مفسوخا لتعارضهما .

والثاني : يكون بينهما لتساويهما .

[ ص: 228 ] والثالث : يكون رهنا بيد المقر له بالتقدم ، ويغرم للراهن قيمته تكون رهنا بيد الآخر ، وهذا حكم القسم الأول في كون العبد بيد الراهن ، وأما القسم الثاني : وهو أن يكون العبد بيد أحد المرتهنين ، وهذا على ضربين :

أحدها : أن يكون قد أقر بالتقدم لمن هو في يده ، فالقول قوله ، وهل عليه اليمين أم لا ؟ على قولين ثم على ما مضى .

والضرب الثاني : أن يكون قد أقر بالتقدم والسبق لمن ليس العبد بيده ، ففيه قولان منصوصان :

أحدهما : أن القول قول صاحب اليد دون المرتهن ، ووجهه أن ما في اليد ينافي التداعي ، ألا ترى لو تداعيا عبدا بعبد مبيعا لا رهنا وكان العبد في يد أحدهما فصدقهما على البيع وأقر بالتقدم والسبق لغير صاحب اليد لم يقبل إقراره ، وكان القول قول صاحب اليد كذلك في الرهن ، فعلى هذا يكون القول قوله مع يمينه ، فإن حلف كان العبد رهنا بيده ، وإن نكل كان العبد رهنا بيد المقر له بالتقدم من غير أن ترد عليه اليمين : لأن ارتهانه من صاحب اليد قد بطل بنكوله ومع هذا الإقرار لم يحتج إلى يمين .

والقول الثاني : وهو الصحيح أن القول قول الراهن دون صاحب اليد ، ووجهه أن اليد في الرهن ليست بيانا لصحة الدعوى ، ألا ترى لو أنكر الرهن وكان في يده لم تكن يده دليلا على صحة دعواه ، وكذلك إذا اعترف أن رهنه بعد الأول رهنا فاسدا ، كما لو أنكره ولم تكن يده دليلا على صحة دعواه ، ويفارق البيع من وجهين :

أحدهما : أن البيع ينقل الملك ، واليد تدل على الملك ، وليس كذلك الرهن .

والثاني : أن البيع قد أزال ملك البائع فصار مقرا في غير ماله فلم يقبل إقراره على صاحب اليد ، والرهن لم يزل ملك الراهن وكان مقرا في ملكه ، وكان إقراره نافذا على صاحب اليد ، فعلى هذا - القول قول الراهن - وهل عليه اليمين أم لا ؟ على ما ذكرنا من القولين ثم على ما مضى - حلفه ونكوله - ، وهذا حكم القسم الثاني في كون العبد في يد أحد المرتهنين .

وأما القسم الثالث : وهو أن يكون العبد في يد المرتهنين جميعا .

فمنصوص الشافعي أن القول قول الراهنين في جميع العبد ، ويكون العبد كله رهنا في يد المقر له ، وهل على الراهن اليمين أم لا ؟ على ما ذكرنا من القولين ، وقال أبو علي بن أبي هريرة : يكون القول قول الراهن في نصف العبد وهو الذي في يد المقر له ، وفي النصف الآخر الذي في يد المرتهن [ ص: 229 ] الآخر على قولين : لأنه أقر به لغيره من هو في يده ، وهذا ليس بصحيح ، وما نص عليه الشافعي أولى : لأنهما قد استويا في اليد وفضل أحدهما بالإقرار فكان الحكم له .

وأما القسم الرابع : وهو أن يكون الرهن في يد أجنبي ، فإنه يسأل عن يده ، فإن كانت نابتة عن الراهن فالحكم فيه كما لو كان في يد الراهن ، وإن كانت نابتة عن أحد المرتهنين كان حكمه كما لو كان في يد المرتهن ، وإن كانت غاصبة لا ينوب بها عن أحد ، فالحكم فيه كما لو كان في يد الراهن : لأنه مستحق اليد بحكم الملك .

التالي السابق


الخدمات العلمية