الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت أن فسخ الإجارة بالفلس جائز لما ذكرنا فلا يخلو فلس المستأجر إذا لم يدفع الأجرة من ثلاثة أحوال :

[ ص: 297 ] أحدها : أن يكون قبل مضي شيء من المدة .

والثاني : أن يكون بعد تقضي جميع المدة .

والثالث : أن يكون بعد مضي بعض المدة ، فإن كان الفلس قبل مضي شيء من المدة كان للمؤاجر أن يفسخ عقد الإجارة ويسترجع الأرض المؤاجرة ، ويسقط عن المستأجر جميع الأجرة كاسترجاع المبيع بالثمن ، فلو كان المستأجر قد أقبض بعض الأجرة كان للمؤاجر أن يفسخ من المدة بقدر ما بقي له من الأجرة ، وكان هذا بمنزلة البائع إذا قبض بعض الثمن ، وإن كان الفلس بعد تقضي جميع المدة فقد صار المعقود عليه مستهلكا فصارت الأجرة في ذمة المستأجر مستقرة فيضرب بها المؤاجر مع الغرماء ، كالبائع إذا استهلك المشتري عين ماله ، وإن كان الفلس بعد مضي بعض المدة وبقي بعضها كأن قضي نصفها وبقي نصفها فقد استقر على المستأجر أجرة ما مضى من نصف المدة ، وكان للمؤاجر أن يفسخ الإجارة فيما بقي من نصف المدة ، وكان هذا بمنزلة المبيع إذا استهلك المشتري بعضه وبقي بعضه ، فإذا فسخ المؤاجر الإجارة فيما بقي من المدة وضرب مع الغرماء بأجرة ما مضى من المدة لم يخل حال الأرض حينئذ من أحد أمرين :

إما أن تكون مشغولة بزرع المفلس أو خالية من زرعه ، فإن كانت خالية من زرعه استرجعها المؤاجر وتصرف فيها ، وإن كان فيها زرعه ولم يستحصد بعد فلا يخلو حال الزرع من أحد أمرين :

إما أن يكون مما له قيمة أو لا قيمة له ، فإن كان مما لا قيمة له في الحال لكونه حشيشا لا منفعة فيه إلا بعد كبره وطوله فهذا يجب أن يقر في الأرض حتى ينتهي إلى حال الانتفاع به ، فلا يجوز قلعه للمفلس ولا للغرماء لما فيه من الاستهلاك لعين نامية وإتلاف مال موجود ، وإذا أقر استحق صاحب الأرض أجرة المثل - على ما سنذكره - وإن كان الزرع فصيلا لمثله قيمة وفيه إن قلع منفعة فللمفلس والغرماء أربعة أحوال :

أحدها : أن يتفقوا على قلعه في الحال ، فذلك لهم ويتسلم صاحب الأرض أرضه بيضاء .

والحال الثانية : أن يتفقوا على تركه إلى وقت كماله وحصاده ليكون أوفر ثمنا ، فذلك لهم إن بذلوا لصاحب الأرض أجرة مثل أرضه ، وليس لصاحب الأرض أن يجبرهم على قلعه ؛ لأنه ليس بعرق ظالم فيقلع ، وإنما هو زرع بحق فأقر ، فإذا أقر استحق صاحب الأرض أجرة مثل أرضه من حين الفسخ إلى وقت الحصاد ، فإن امتنعوا من بذل الأجرة له كان له أن يأخذهم بقلع الزرع : لأنه إنما فسخ ليصل إلى منافع أرضه فلا يلحقه ضرر بفواتها عليه ، وفي إقرار الزرع بغير أجرة إبطال لهذا المعنى الذي به استحق الفسخ ، وقد ذكرنا الفرق بين بائع الأرض [ ص: 298 ] حيث لم يستحق أجرة لما بقي فيها من زرع المفلس وبين المؤاجر حيث استحق الأجرة لما يستبقى فيها من زرع المفلس ، وهو أن رقبة الأرض في المبيع هي المقصودة بالعقد والمشتري غير معاوض على منفعة الأرض ، فإذا استحق البائع الرقبة فقد وصل إلى حقه الذي عارض ، وإن استحقت المنفعة وليس كذلك الإجارة لأن المنفعة هي المعقود عليها ، وفسخ العقد بالفلس يوجب استرجاعها فقد صح الفرق بينهما ، فهذا الحكم في الزرع إذا اتفق المفلس والغرماء على تركه .

والحال الثالثة : أن يدعو المفلس إلى تركه إلى وقت الحصاد ليتوفر عليهم ثمنه ويدعو الغرماء إلى قلعه في الحال ، فالقول قول الغرماء في تعجيل قلعه في الحال ، وبيعه في حقوقهم ، لأن ديونهم معجلة فلا يلزمهم تأخيرها ، ولأن في استبقاء الزرع خطرا لحدوث الجائحة به .

والحال الرابعة : أن يدعو المفلس إلى قلعه في الحال ليتعجل قضاء دينه ويدعو الغرماء إلى استبقائه إلى وقت حصاده لوفور ثمنه ، فالقول في تعجيل قلعه قول المفلس ، لأن ذمته مرتهنة بدين يقدر على تعجيل قضائه فلم يلزمه تأخيره ، ولما يخاف على الزرع من حدوث الجائحة والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية