الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإن كان حنطة فطحنها ففيها قولان : أحدهما : ـ وبه أقول ـ يأخذها ويعطي قيمة الطحن لأنه زائد على ماله ( قال ) وكذلك الثوب يصبغه أو يقصره يأخذه وللغرماء زيادته ، فإن قصره بأجرة درهم فزاد خمسة دراهم كان القصار شريكا فيه بدرهم والغرماء بأربعة دراهم شركاء بها وبيع لهم ، فإن كانت أجرته خمسة دراهم وزاد درهما كان شريكا في الثوب بدرهم وضرب مع الغرماء بأربعة ، وبهذا أقول ، والقول الآخر أن القصار غريم بأجرة القصارة لأنها أثر لا عين ( قال المزني ) قلت أنا هذا أشبه بقوله ، وإنما البياض في الثوب عن القصارة كالسمن عن الطعام والعلف وكبر الودي عن السقي ، وهو لا يجعل الزيادة للبائع في ذلك عين ماله ، فكذلك زيادة القصارة ليست عين ماله ، وقد قال في الأجير يبيع في حانوت أو يرعى غنما أو يروض دواب فالأجير أسوة الغرماء ، فهذه الزيادات [ ص: 303 ] عن هذه الصناعات التي هي آثار ليست بأعيان مال حكمها عندي في القياس واحد ، إلا أن تخص السنة منها شيئا فيترك لها القياس " .

قال الماوردي : وصورتها في رجل ابتاع حنطة فطحنها ، أو ثوبا فخاطه أو قصره ثم فلس فاختار البائع عين ماله فهل تكون الزيادة بالطحن والخياطة والقصارة كالأعيان المتميزة من ثمار النخل يملكها المشتري ولا يرجع بها البائع ، أو يكون كالآثار المتصلة من السمن والطول لا ينفرد بها المشتري ويرجع بها البائع ؟ فيه قولان منصوصان :

أحدهما : وهو اختيار المزني أنها آثار يرجع بها البائع ولا ينفرد بها المشتري ، ووجهه شيئان ذكرهما المزني :

أحدهما : وهو أن الطحن والخياطة والقصارة هي آثار غير متميزة لأن الطحن تفريق أجزاء مجتمعة ، والخياطة تأليف أجزاء متفرقة ، والقصارة إزالة كهد من لونه فكانت كتعليم العبد صنعة أو خطا وأسوأ من حدوث السمن والكبر حالا ، لأن السمن والكبر أعيان متصلة ، والطحن والقصارة أعيان متميزة ، فلما كان السمن الحادث في الغنم برعي الراعي والكبر الحادث في الودي بسقي الساقي لا تكون أعيانا ينفرد المشتري بملكها ويرجع الأجير عند فلسه بها فالطحن والقصارة أولى أن لا تكون أعيانا ينفرد بها المشتري ويملكها ويرجع الأجر عند فلسه بها ، بل تكون آثارا يرجع بها البائع مع عين ملكه .

والثاني : أن ما كان في حكم الأعيان المتميزة لم يستحقه المغصوب إذا أخذه الغاصب كالصبغ ، فلما كان الغاصب لو غصب حنطة فطحنها أو ثوبا فقصره ثم استحقه المغصوب لم يرجع الغاصب بالطحن والقصارة كما لا يرجع بالسمن والكبر كذلك في الفلس .

والقول الثاني : أن الطحن والخياطة والقصارة في حكم الأعيان المتميزة يملكها المشتري ولا يرجع بها البائع ووجهه شيئان :

أحدهما : أن الطحن والقصارة إحالة صفة إلى غيرها كالصبغ ؛ لأنه إحالة لون إلى غيره ، فلما كان الصبغ في حكم الأعيان المتميزة يملكها المشتري ولا يرجع بها البائع كذلك الطحن والقصارة .

والثاني : أن الطحن والقصارة أمور تنسب إلى فاعلها ، ويجوز أن يفرد عقد الإجارة بها فيستأجره على الطحن والقصارة ، فجرى مجرى الأعيان في أن ليس للبائع أن يرجع بها ، وخالف سمن الغنم الذي لا ينسب إلى الراعي وكبر الودي الذي لا ينسب إلى الساقي ، ولا يجوز أن يفرد عقد الإجارة به ، ولا أن يستأجره على سمن الغنم وكبر الودي ، وهذا استدلال [ ص: 304 ] وجواب ، فأما الغاصب فإنما لم يرجع بالطحن والقصارة لأنه أحدث ذلك في غير ملكه وهو متعد به ، وليس كذلك المشتري .

التالي السابق


الخدمات العلمية