الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما قول الشافعي رضي الله عنه لأن الرجل قد يرتفق بجدار الرجل بأمره وغير أمره ، فقد روي في القديم حديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره قال أبو هريرة ما لي أراكم عنها معرضين ، والله لأرمينها بين أكتافكم .

فكان يذهب في القديم إلى أن للجار أن يضع أجذاعه في جدار جاره جبرا بأمره وغير أمره ، وبه قال مالك تعلقا بهذا الحديث ، ثم رجع عنه في الجديد وقال : ليس له أن يضع أجذاعه في جدار جاره إلا بأمره ، كما ليس له أن يتصرف في غير ذلك من الأملاك التي لجاره إلا بأمره .

ولأن الشريك في الملك أقوى من جار الملك ، وليس لأحد الشريكين أن ينفرد بالتصرف ، فالجار أولى وهذا قول أبي حنيفة .

فعلى هذا يكون حديث أبي هريرة محمولا على أحد وجهين :

أحدهما : أن يحمل على الاستحباب والندب لا على الوجوب والحتم .

والثاني : أنه محمول على الجار ليس له منع صاحب الحائط من وضع أجذاعه في حائطه وإن كان مضرا بالجار في منع ضوء أو إشراف ليكون موافقا للأصول .

فإن قيل : لم قال الشافعي في القديم : لأن الرجل قد يرتفق بجدار الرجل بأمره وغير أمره ، وهو في الجديد لا يقول هذا ، قلنا فيه تأويلان :

أحدهما : بأمره يعني مجاهرا ، وبغير أمره يعني ساترا .

والثاني : بأمره يعني باختياره ، وبغير أمره يعني بإجبار من يرى ذلك من القضاة والحكام .

فإذا تقرر ما ذكرنا فإن قلنا بوجوب ذلك عليه على مذهبه في القديم لم يكن له منع جاره من وضع أجذاعه في جداره ، وكان للجار أن يضع في الجدار ما احتمله من الأجذاع ، [ ص: 392 ] ولو صالحه من وضع الأجذاع على عوض لم يجز لوجوب ذلك عليه ، ومن وجب عليه حق لم يجز أن يعتاض عليه .

ولو انهدم الحائط لم يلزم مالكه أن يبنيه إلا باختياره .

فإن بناه كان للجار أن يعيد أجذاعه فيه .

ولو أراد الجار بناء الحائط عند امتناع صاحبه من بنائه كان له ذلك ليصل بذلك إلى حقه من وضع أجذاعه فيه ، وإذا قلنا بقوله في الجديد إن ذلك ليس بواجب وهو القول الصحيح فليس للجار أن يضع أجذاعه في الجدار إلا بإذن مالكه واختياره ، ويجوز للمالك أن يأذن له فيه بعوض وغير عوض ، لأن ما لا يملك عليه يجوز أن يعاوض عليه إذا كان معلوما ، فإن أذن فيه بغير عوض كانت عارية وجاز أن لا يشترط عدد الأجذاع ولا يعلم طولها ولا موضع تركيبها ، لأن الجهل بمنافع العارية لا يمنع من صحتها ، ثم ليس له أن يرجع في العارية ما بقي الحائط ؛ لأن موضع الأجذاع يراد للاستدامة فكان إطلاقه الإذن محمولا عليه ، كمن أعار أرضه لدفن ميت لم يكن له الرجوع في عاريته وإخراج الميت منها بعد دفنه ، ولكن لو انهدم الحائط وأعاده مالكه فهل لصاحب الأجذاع أن يعيد وضعها فيه بالإذن المتقدم أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : له ذلك لأنه صار مستحقا على التأييد كما لو كان الأول باقيا .

والوجه الثاني وهو أصح ليس له ذلك إلا بإذن مستحدث ، لأن حكم العارية قد انقطع بانهدام الحائط ، ولأنه إنما استحق تأييد ذلك لما في نزعها من الإضرار به ، وقد لحقه ذلك بانهدامه .

ولكن لو أعار أرضا لدفن ميت فنبشه سبع أعيد دفنه فيها من غير إذن مستحدث وجها واحدا .

ولو أكله السبع لم يجز أن يدفن غيره فيها إلا بإذن جديد لذهاب من كان مستحقا لمنفعة العارية .

ولو كان قد أذن له في وضع جذع في حائطه فانكسر الجذع كان له إعادة غيره .

والفرق بينه وبين الميت أن المنع من الرجوع في عارية القبر لحرمة الميت ، فإذا أكله السبع انقضت حرمته عن المكان .

والمنع من الرجوع في موضع الأجذاع لما يلحقه من الضرر بانهدام السقف وهذا [ ص: 393 ] موجود بعد انكسار الجذع ، فأما إذا أخذ منه على وضع أجذاعه عوضا فلا يصح إلا بعد معرفة عدد الأجذاع وطولها وامتلائها وموضعها من الحائط وقدر دخولها فيه ، لأن المعاوضة تحرس من الجهالة ، ثم اختلف أصحابنا فيه إذا انتفت الجهالة عنه هل يكون بيعا أو إجارة ؟ على وجهين :

أحدهما : يكون بيعا ، وهذا قول أبي حامد المروروذي ، فعلى هذا يصح على التأييد من غير اشتراط مدة فيه ، ومتى انهدم الحائط ثم بني أعيد وجها واحدا بخلاف العارية التي لا يمنع من صحتها الجهالة بمدة منفعتها .

والوجه الثاني وهو عندي أصح : أنه يكون إجارة ولا يكون بيعا ، لأنه عقد على منفعة لا عين ، فعلى هذا لا يصح إلا باشتراط مدة معلومة تتقدر بها المنفعة ويؤخذ بقلع ذلك عند انقضائها .

وعلى الوجهين معا إن قدر ذلك بمدة صح وكانت إجارة ، وهكذا لو صالحه على إجراء مسيل ماء في أرضه فلا بد من تعيين موضعه وتقدير طوله وعرضه ، ثم إن قدر بمدة صح وكانت إجارة ، وإن لم يقدره كان على وجهين :

أحدهما : أنه يكون بيعا لما حد من الأرض لإجراء الماء فيه على التأييد .

والثاني : يكون باطلا إذا قيل إنه يكون إجارة .

وأما إن صالحه على سقي ماشيته من عين أو بئر مدة معلومة لم يجز ؛ لأن قدر ما تشربه الماشية مجهول ، وهكذا الزرع ، ولكن لو صالحه على نصف العين أو ثلثها جاز وكان بيعا لا يحتاج إلى تقدير المدة فيه ؛ لأنه عقد على عين ، ولو قدره بمدة خرج عن البيع إلى الإجارة فكان باطلا ؛ لأن إجارة عين الماء منها لا يجوز .

التالي السابق


الخدمات العلمية