الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإن سقط لم يجبر صاحب السفل على بنائه " .

قال الماوردي : وهذا صحيح .

إذا انهدم البيت الذي سفله لرجل وعلوه لآخر ، فإنه لا يخلو حالهما من أربعة أحوال :

أحدها : أن يتفقا على تركه مهدوما فلا اعتراض عليهما فيه .

والثاني : أن يتفقا على بنائه فذلك لهما ، ويختص صاحب السفل ببناء السفل إلى انتهاء وضع الأجذاع ، وصاحب العلو ببناء العلو إلى حيث كان من غير أن يزيد عليه ، ولا لصاحب السفل أن يأخذه بالنقصان عنه ، فلو اختلفا مع اتفاقهما أن ارتفاع السفل والعلو عشرون ذراعا ، فقال صاحب السفل : السفل خمسة عشر ذراعا ، وارتفاع العلو خمسة أذرع ، [ ص: 400 ] وقال صاحب العلو : بل ارتفاع السفل خمسة أذرع وارتفاع العلو خمسة عشر ذراعا ، فقد اختلفا على أن لصاحب السفل خمسة أذرع لا نزاع فيها ولصاحب العلو خمسة أذرع لا نزاع فيها ، واختلفا في عشرة أذرع ادعاها كل واحد منهما وأيديهما معا عليها ، فوجب أن يتحالفا عليها ، ويجعل العشرة المختلف عليها بعد أيمانهما معا بينهما نصفان ، فيصير لصاحب السفل عشرة أذرع ، ولصاحب العلو عشرة أذرع ، ثم يشتركان في بناء السفل بعد أن يختص كل واحد منهما ببناء حقه ، إلا أن يكون السقف لأحدهما فيختص الذي هو له ببنائه دون غيره .

والحال الثالثة : أن يمتنع صاحب العلو من البناء ، ويدعو صاحب السفل إليه فله أن يختص ببناء سفله ، وليس له مطالبة صاحب العلو ببناء علوه : لأنه لا حق له في بنائه ، ويقدر على الانتفاع بحقه إلا أن يكون السقف بينهما ، فيكون على ما نذكره من القولين في إجبار الشريكين على المباناة .

والحال الرابعة : وهي مسألة الكتاب أن يمتنع صاحب السفل من بنائه ويدعو صاحب العلو إليه ليبني العلو عليه ففي إجباره قولان :

وهكذا الشريكان في حائط قد انهدم ، إذا دعي أحدهما إلى البناء وامتنع الآخر ، هل يجبر الممتنع منهما على البناء أم لا ؟ على قولين :

أحدهما وهو قوله في القديم وبه قال مالك : أنه يجبر الممتنع على البناء ليصل الآخر إلى حقه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار ، من ضار أضر الله به ، ومن شاق شق الله عليه .

فلما نفى لحوق الإضرار دل على وجوب الإجبار ، ولما روي أن الضحاك بن خليفة أنبع ماء بالعريص وأراد أن يجريه إلى أرضه فلم يصل إليه إلا بعد إمراره على أرض محمد بن سلمة فامتنع محمد من ذلك ، وتخاصما إلى عمر رضي الله عنه ، فقال عمر لمحمد بن سلمة ليمرن به أو أمره على بطنك .

وروي أنه قضي على بعض الأنصار بمثل ذلك لعبد الرحمن بن عوف ، [ ص: 401 ] وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك للزبير بن العوام على بعض الأنصار حتى قال الأنصاري : أن كان ابن عمتك فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم .

فلما جاء الخبر والأثر بمثل ما ذكرنا لزوال الضرر عن الجار دل على أن الضرر يزال بالإجبار .

ولأنه لما استحقت الشفعة لزوال الضرر بها ووجبت القسمة إذا دعي إليها أحد الشريكين لينتفي الإضرار معها كان وجوب المباناة مع ما فيها من تضاعف الضرر أولى .

والقول الثاني قاله في الجديد وهو الصحيح وبه قال أبو حنيفة أنه لا إجبار في ذلك ويترك كل واحد منهما إلى أن يختار البناء لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " ولأنه لا يجبر على عمارة ملكه ولا عمارة ملك غيره في حال الانفراد فوجب أن لا يجبر على عمارته في حال الاشتراك كالزرع والغراس طردا وكنفقة البهائم عكسا .

ولأنه لا يخلو أن يكون الإجبار لمصلحة نفسه أو لمصلحة غيره ، وقد تقرر أنه لا يجبر على واحد منهما .

فأما الجواب عن قوله " لا ضرر ولا ضرار " فهو أنه ليس استعماله في نفي الضرر عن الطالب بإدخاله على المطلوب بأولى من نفيه عن المطلوب بإدخاله على الطالب ، إذ ليس يمكن نفيه عنهما ، فتناوب الأمران فيه فسقط الاستدلال بظاهره .

وأما حديث عمر فهو قضية في عين لا يجوز أن يستدل بعمومها ولعل إجراء المال قد كان مستحقا من قبل ؛ لأن الإجماع لا يلزم أحدا أن يجري ماء غيره على أرضه وكذلك حديث الزبير .

وأما استحقاق الشفعة لإزالة الضرر بها ، فلأنه لا يدخل على الغير إضرار بها ؛ لأنه قد يأخذ ما قدر وليس كذلك في العمارة والمباناة .

وأما القسمة فليست غرما ، وإنما هي لتمييز الملكين وإقرار الحقين ، والعمارة غرم محض فافترقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية