الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال المزني : " قال الله جل ثناؤه قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم [ يوسف : 72 ] وقال عز وجل سلهم أيهم بذلك زعيم [ القلم : 40 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " والزعيم غارم " والزعيم في اللغة هو الكفيل ، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وضعت قال صلى الله عليه وسلم هل على صاحبكم من دين ؟ فقالوا : نعم درهمان ، قال " صلوا على صاحبكم " فقال علي رضوان الله عليه هما علي يا رسول الله وأنا لهما ضامن فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على علي رضي الله عنه فقال " جزاك الله عن الإسلام خيرا وفك رهانك كما فككت رهان أخيك " ( قال المزني ) قلت أنا وفي ذلك دليل أن الدين الذي كان على الميت لزم غيره بأن ضمنه وروى الشافعي في قسم الصدقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة " ذكر منها رجلا تحمل بحمالة فحلت الصدقة ( قلت أنا ) فكانت الصدقة محرمة قبل الحمالة فلما تحمل لزمه الغرم بالحمالة فخرج من معناه الأول إلى أن حلت له الصدقة " .

قال الماوردي : أما الضمان فهو أخذ الوثائق في الأموال ؛ لأن الوثائق ثلاثة : الشهادة والرهن والضمان .

والدليل على جواز الضمان وصحته الكتاب والسنة ، فأما الكتاب : فقوله تعالى : قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم [ يوسف : 72 ] فإن قيل : فالاستدلال بهذه الآية لا يصح من وجوه ثلاثة :

[ ص: 431 ] أحدهما : أنها حكاية حال محرفة ونقل قصة غير صحيحة ؛ لأن الصواع لم يفقد والقوم لم يسرقوا ، وإذا كان موضوعا كذبا كان الاستدلال بها فاسدا .

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن هذا من قول المنادي ، ولم يكن يعلم بما فعل يوسف ، فلما فقد الصواع ظن أنهم قد سرقوه فنادى بهذا وهو يعتقد أنه حق وصدق .

والثاني : أن يوسف فعل ذلك عقوبة لإخوته فخرج من باب الكذب إلى حد العقوبة والتأديب ، ثم رغب الناس فيما بذله لهم ، بما قد استقر عندهم لزومه ووجوبه ؛ ليكون أدعى إلى طلبتهم وتحقيق القول عليهم زيادة في عقوبتهم .

والسؤال الثاني : أن الآية تناولت ضمان مال مجهول ؛ لأن حمل البعير مجهول وضمان المجهول باطل .

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن حمل البعير كان عندهم عبارة عن قدر معلوم كالوسق كان موضوعا لحمل الناقة ثم صار مستعملا في قدر معلوم .

والثاني : أن الآية دالة على أمرين :

أحدهما : جواز الضمان .

والثاني : صحته في القدر المجهول ، فلما خرج بالدليل ضمان المجهول كان الباقي على ما اقتضاه التنزيل .

والسؤال الثالث : أنه ضمان مال الجعالة ، وضمان مال الجعالة باطل .

والجواب عنه : أن أصحابنا قد اختلفوا في جواز ضمان مال الجعالة على وجهين :

أحدهما : يجوز ضمانه فعلى هذا سقط السؤال .

والثاني : أنه لا يصح ، فعلى هذا لا يمتنع قيام الدليل على فساد ضمان مال الجعالة من التعلق بباقي الآية ، وقال تعالى : سلهم أيهم بذلك زعيم [ القلم : 40 ] وهذا وإن كان على طريق التحدي فهو دال على جواز الضمان والزعيم الضمين وكذلك الكفيل والحميل والصبير ، ومعنى جميعها واحد غير أن العرف جار بأن الضمين مستعمل في الأموال ، والحميل في الديات ، والكفيل في النفوس ، والزعيم في الأمور العظام ، والصبير في الجميع ، وإن كان الضمان يصح بكل واحد منهم ويلزم .

وأما السنة فروى ابن عباس عن شرحبيل عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 432 ] يقول : إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ، لا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها قيل : يا رسول الله ولا الطعام ، قال : " ذلك أفضل أموالنا " ، ثم قال : العارية مضمونة مؤداة ، والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم .

وروى زائدة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : توفي رجل منا فغسلناه ثم كفناه ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فخطا خطوة ، ثم قال : أعليه دين ؟ قلنا : ديناران ، فانصرف فتحملها أبو قتادة ، وقال : علي الديناران ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أعليك حق الغريم ، وبرئ الميت منه ، قال : نعم ، قال : فصلى عليه ، ثم قال بعد ذلك بيوم : ما فعل الديناران ؟ ، قال : إنما مات أمس ، ثم عاد عليه بالغد ، فقال : قد قضيتها ، قال الآن بردت عليه جلده ، وروى أبو سعيد الخدري قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وضعت قال صلى الله عليه وسلم : هل على صاحبكم من دين ، قالوا : نعم درهمان ، قال : صلوا على صاحبكم ، فقال علي رضي الله عنه هما علي يا رسول الله ، وأنا لهما ضامن ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على علي فقال : جزاك الله عن الإسلام خيرا ، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك ، وروى عكرمة عن ابن عباس أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير ، وحلف لا يفارقه حتى يقضيه ، أو يأتيه بحميل ، فجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله إن هذا لزمني فاستنظرته شهرا فأبى حتى آتيه بحميل ، أو أقضيه فوالله ما أجد حميلا وما عندي قضاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تستنظره إلا شهرا ، قال : لا ، قال : فأنا أتحمل بها عنك فتحمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب الرجل فأتاه بقدر ما وعده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أين لك هذا الذهب ؟ قال من معدن ، قال : اذهب فلا حاجة لنا فيها ليس فيها خير وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى عبد الحميد بن أبي أمية عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة فقال : صل عليها ، فقال أليس عليه دين ؟ قالوا نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينفعك أن أصلي على رجل وهو مرتهن في قبره فلو ضمن رجل دينه قمت فصليت عليه فإن صلاتي تنفعه .

وروى ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين ، فيسأل : هل ترك قضاء ؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه ، وإلا قال للمسلمين : صلوا على صاحبكم ، فلما فتح الله عليه الفتوح ، قام فقال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته .

وفي قوله " من ترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته " تأويلان :

[ ص: 433 ] أحدهما : معناه من ترك دينا عليه ولا قضاء فعلي قضاؤه من مال الصدقات وسهم الغارمين ، ومن ترك مالا لا دين عليه فهو لورثته .

والثاني : معناه : من ترك دينا له ومالا فعلي اقتضاء الدين واستخراجه ممن هو عليه حتى يصير مع ماله الذي تركه إلى ورثته .

فإن قيل : فلم كان يمتنع من الصلاة على من عليه دين إذا مات معسرا ، ولا يمتنع من الصلاة إذا مات موسرا ؟ والمعسر في الظاهر معذور ، والموسر غير معذور ؟ ، قيل : لأن الموسر يمكن قضاء دينه من تركته والمعسر لا يمكن قضاء دينه ، وقد قال : نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى ، فلما كان مرتهنا بدينه لم تنفعه الصلاة عليه ولا الدعاء له إلا بعد قضائه ، وقيل : بل كان يفعل ذلك زجرا عن أن يتسرع الناس إلى أخذ الديون ليكفوا عنها ، وقيل : بل كان يفعل ذلك ليرغب الناس في قضاء دين المعسر فلا يضيع لأحد دين ولا يبقى على معسر دين .

التالي السابق


الخدمات العلمية