الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر ما وصفنا فلا يصح الضمان إلا بلفظ مسموع يخاطب به الضامن أحد أربعة أنفس ، إما أن يخاطب به المضمون له فيقول قد ضمنت لك عن فلان ألف درهم أو يخاطب وكيل المضمون له أو يقر به عند الحاكم أو عند شاهد ، فإن خاطب به من سوى هؤلاء الأربعة لم يكن ذلك شيئا ، وإنما اختص بخطاب أحد هؤلاء الأربعة لأن المضمون له صاحب الوثيقة ومستحق المطالبة ، فكان عقد الضمان معه أو كسبه وأما وكيل المضمون له فلأنه يقوم مقامه ، وأما الحاكم فلأنه مستوفي الحقوق ، والنائب عن الغائب ، ولأن عليا وأبا قتادة رضي الله عنهما ضمنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاطباه فأمضاه ، وأما الشاهد فلأنه ممن يحفظ به الحقوق ، وإذا كان كذلك فإن خاطبه المضمون له فتمام الضمان موقوف على المضمون له ، وهل يكون مشروطا بقبوله أو رضاه ؟ على وجهين :

أحدهما وهو قول أبي العباس بن سريج أن تمام الضمان مشروط بقبول المضمون له في الحال لفظا ؛ لأن الضمان عقد وثيقة يفتقر إلى لفظ الضامن بالضمان ، فاقتضى أن يفتقر [ ص: 435 ] إلى قبول المرتهن ، فعلى هذا إن تراخى القبول لم يصح الضمان كما لا يصح بتراخي القبول في سائر العقود ، وقد صرح بهذا القول أبو علي الطبري في إفصاحه .

والوجه الثاني حكاه ابن أبي هريرة عن بعض شيوخه أن رضا المضمون له شرط في لزوم الضمان ، ولا يفتقر إلى القبول باللفظ ؛ لأن الضمان لو كان كسائر العقود في أنه مشروط بالقبول لكان مواجهة المضمون له شرطا في صحته ، فلما جاز أن يضمن له مع غيبته دل على أن لفظ القبول ليس بشرط ، وقد ضمن علي وأبو قتادة ( رضوان الله عليهما ) دين الميت مع غيبة صاحبه دل على أنه موقوف على الرضا دون القبول ، فعلى هذا إذا رضي المضمون له بالضمان بقول صريح أو ما يدل على الرضا في مجلس الضمان جاز ، وإن تراضيا عن مال الضمان فإن لم يوجد منه الرضا بالضمان حتى فارق المجلس فلا ضمان ، وللضامن أن يرجع في ضمانه فلا رجوع للضامن فيه : لأنه قد تم ولزم .

فهذا حكم الضمان إذا خوطب به المضمون له فأما إذا خوطب به وكيل المضمون له ، وهو أن يقول الضامن للوكيل قد ضمنت لموكلك فلان بن فلان ألف درهم عن فلان ، فينظر في الوكيل ، فإن كان مأذونا له في أخذ الضمان تم الضمان بقبول الوكيل على أحد الوجهين وبرضاه على الوجه الثاني ، ولا يكون تمامه موقوفا على المضمون له ، وكذلك في حق المولى عليه بصغر ، أو جنون ، أو سفه ، وإن كان الوكيل غير مأذون له في أخذ الضمان كان تمام الضمان موقوفا على علم الموكل ، ثم على ما يكون من قبوله في أحد الوجهين أو رضاه في الوجه الثاني .

فهذا حكم الضمان إذا خوطب به وكيل المضمون له ، فأما إذا خوطب به الحاكم ، وهو أن يقول الضامن للحاكم قد ضمنت لفلان بن فلان عن فلان بن فلان ألف درهم ليرجع عليه .

فإن كان المضمون له مولى عليه لصغر ، أو سفه ، أو جنون ، أجاز الحاكم ضمانه فإذا أجاز صار تاما به ، وإن كان المضمون رشيدا لا يولى عليه كان تمامه موقوفا على علمه ، ثم على ما يكون من قبوله أو برضائه ، وليس للحاكم أن يجيز الضمان عليه .

وإن كان الضمان وثيقة له : لأنه عقد فلا يصح من غيره مع سلامة حاله ، فهذا حكم الضمان إذا خوطب به الحاكم ، فأما إذا خوطب به شاهد أشهده بالضامن على نفسه بالضمان ، فقال : قد ضمت لفلان عن فلان ألف فاشهد علي أو لم يقل فاشهد علي فتمام هذا الضمان موقوف على الموقوف له إن كان غير مولى عليه ، أو على وليه إن كان مولى عليه ، وليس للشاهد أن يجيز الضمان على المولى عليه بخلاف الحاكم ؛ لأن الشاهد لا ولاية له والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية