الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " ولا بأس بالوضوء من ماء مشرك وبفضل وضوئه ما لم يعلم نجاسته فقد توضأ عمر - رضي الله عنه - من ماء في جرة نصرانية " .

وقال الماوردي : وهذا كما قال .

المشركون على أصل الطهارة في أبدانهم ، وثيابهم ، وأوانيهم ، وهو قول جمهور الفقهاء . وحكى عن أحمد وإسحاق وداود أنهم أنجاس يحرم استعمال ما لقوه بأجسادهم استدلالا بقوله تعالى : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [ التوبة : 28 ] . فنص على نجاستهم .

ودليلنا قوله تعالى : اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ المائدة : 5 ] . ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم ومياههم وفي أوانيهم فدل على طهارة ذلك كله .

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب ماء من مزادة وثنية وروي أن عمر رضي الله عنه توضأ من جر نصرانية ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يأذن للمشركين في دخول مسجده وربط ثمامة بن أثال حين أسره على سارية في المسجد ، ولو كان نجسا لكان أولى الأمور به تطهير مسجده منه ، ولأن الاعتقاد لا يؤثر في تنجيس الأعيان ، ولو كان بسوء معتقده ينجس ما كان طاهرا لكان حسن معتقدنا يطهر ما كان نجسا .

فأما قوله تعالى : إنما المشركون نجس [ التوبة : 28 ] . ففيه تأويلان :

أحدهما : أنهم أنجاس الأبدان كنجاسة الكلب والخنزير ، وهذا قول عمر بن عبد العزيز .

وقال الحسن البصري كذلك ، وأوجب الوضوء على من صافحهم .

[ ص: 81 ] والثاني : وهو قول الجمهور أنه سماهم نجسا ، لأنهم لا يغتسلون من الجنابة فصاروا لما وجب عليهم الغسل كالنجاسة التي يجب غسلها لا أنهم في أبدانهم أنجاس .

فإذا ثبت طهارة المشركين فهم على ثلاثة أضرب .

[ الأول ] : ضرب منهم يرون اجتناب الأنجاس كاليهود والنصارى ، واستعمال مياههم والصلاة في ثيابهم جائزة .

و [ الثاني ] : ضرب منهم لا يرون اجتنابها ولا يعتقدون العبادة في استعمالها كالدهرية والزنادقة ، فيجوز استعمال مياههم والصلاة في ثيابهم ، لأن الأصل فيها الطهارة ، ونكرهها خوفا من حلول النجاسة .

والضرب الثالث : أن لا يجتنبوها ويرون العبادة في استعمالها كالبراهمة من الهند ، وطائفة من المجوس يرون استعمال الأبوال قربة ، فاستعمال مياههم جائز وإن كان مكروها ، وأما الصلاة في ثيابهم فيجوز فيما لم يلبسوه كثيرا كاليوم أو بعضه ، وأما ما كثر لباسهم لها حتى طال زمانهم فيها ، ففي جواز الصلاة فيها وجهان :

أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي ، لا يجوز الصلاة فيها ، ومن صلى فيها فعليه الإعادة ، لأن الغالب فيها حلول النجاسة كالمسلم الذي لا يخلو لباسه إذا طال عليه من حلول الماء فيه ، لأنه يستعمله عبادة فلم ينفك منه .

والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن الصلاة فيها جائزة وإن كرهت لأن الأصل فيها الطهارة ، فلم يجز أن يحكم نجاستها بالشك ، وأشد ما يكره من ثياب من لا يجتنب الأنجاس الميارز والسراويلات ، فأما أواني المشركين ، فمن كان منهم لا يرى أكل لحم الخنزير جاز استعمال أوانيهم ، ومن كان يرى أكله ، ففي جواز استعمالها إذا طال استعمالهم لها وجهان :

أحدهما : وهو قول أبي إسحاق لا يجوز ، لأن الظاهر نجاستها ، وقد روى أبو قلابة ، عن أبي ثعلبة الخشني قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إنا بأرض أهل الكتاب ، وأنا محتاج إلى آنيتهم ، فقال : فارحضوها بالماء ثم اطبخوا فيها .

والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن استعمالها جائز ، وإن كرهت اعتبارا بالأصل في طهارتها ، وإسقاطها بحكم الشك في نجاستها غير مستحب . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية