الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : دلائل طهارة الماء

والدلائل على طهارة الماء وجواز التطهير به آيتان :

[ ص: 36 ] إحداهما : قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا ، والثانية : وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، وسنتان :

إحداهما : ما رواه راشد بن سعد ، عن أبي أمامة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه .

والثانية : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن صفوان بن سليم ، عن سعيد بن سلمة ، [ ص: 37 ] أن المغيرة بن أبي بردة ، أنه سمع أبا هريرة يقول : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا ، أنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . وروي في خبر آخر أن العركي قال : " إنا نركب في البحر في أرماث لنا " ، والعركي : الصياد . والأرماث : الخشب يضم بعضه إلى بعض فنركب عليها في البحر " . قال الشاعر :


تمنيت من حبي بثينة أننا على رمث في البحر ليس لنا وفر

قال الحميدي : قال الشافعي : " هذا الحديث نصف العلم الطهارة ، ولعمري إن هذا القول صحيح ، لأن هذا الحديث دل على طهارة ما ينبع من الأرض ، والآية دالة على طهارة ما نزل من السماء ، والماء لا يخلو من أن يكون نازلا من السماء أو نابعا من الأرض

فصل : فأما الطهور الموصوف به الماء في الآية والخبر ، فهو صفة تزيد على الطاهر يتعدى التطهير منه لغيره ، فيكون معنى الطهور هو المطهر .

وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري والحسن ، وابن داود والأصم : إن الطهور بمعنى الطاهر لا يختص بزيادة التعدي .

وفائدة هذا الخلاف تجويزهم إزالة الأنجاس بالمائعات الطاهرات واستدلوا بقوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ الإنسان : 2 ] . يعني طاهرا ؛ لأن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير به وقال جرير :

[ ص: 38 ]

إلى رجح الأكفال عد من الظبى     عذاب الثنايا ريقهن طهور

يعني : طاهرا ، لأن ريقهن لا يكون مطهرا قالوا : ولأن كل فعول كان متعديا كان فاعله متعديا كالمقتول والقاتل ، وكل فاعل كان غير متعد كان فعوله غير متعد كالصبور والصابر ، فلما كان الطاهر غير متعد ، وجب أن يكون الطهور غير متعد ، قالوا : ولأن الطهور لو كان متعديا لما انطلق هذا الاسم عليه إلا بعد وجود التعدي منه ، كالقتول والضروب ، فلما انطلق اسم الطيور على الماء قبل وجود التطهر به ، علم أنه لم يسم به لتعدي الفعل منه ، بل للزوم ، والصفة له أي الوصف ، قالوا : ولأن الطهور لو كان متعديا لوجب أن يتكرر فعل التطهير منه كالقتول والضروب ، فلما لم يتكرر منه لأنه يصير بالمرة الواحدة مستعملا علم أنه غير متعد .

ودليلنا قوله تعالى : وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به [ الأنفال : 11 ] فأخبر أن الماء يتطهر به ، وهذه عبارة عن تعدي الفعل منه ، فقال عليه السلام في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته جوابا عن سؤالهم في تعدي فعله إليهم إذ قد علموا طهارته قبل سؤالهم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أعطيت خمسا لم يعطهن قبلي نبي " فذكر منها : " وجعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا " يعني مطهرا ، لأنه قد كان طاهرا على محمد وغيره ، وإنما افتخر بما خص به من زيادة التطهير به . وقال عليه السلام : " دباغها طهورها " : أي مطهرها .

وقال : " طهور إناء أحدكم " أي : مطهره ، فكانت هذه الظواهر الشرعية كلها دلالة على أن الطهور بمعنى مطهر ، وكذا في كل ما ورد به الشرع .

وأما من طريق اللغة فهو أن فعول أبلغ في اللغة من فاعل ، فلما اختص قولهم : طهور ، بما يكون منه التطهير من الماء والتراب دون ما كان طاهرا من الخشب والثياب على أن الفرق بينهما في المبالغة تعدي الطهور ، ولزوم الطاهر ، ولأن ما أمكن الفرق بين فعوله وفاعله بالتكرار ، لم يفرق بينهما بالتعدي ، كالقتول والقاتل ، وما لم يمكن الفرق بينهما بالتكرار فرق بينهما بالتعدي ، وليس يمكن الفرق بين طهور وطاهر بتكرار الفعل فبان الفرق بينهما بالتعدي .

فأما استدلالهم بالآية فالجواب عنه من وجهين :

[ ص: 39 ] أحدهما : أن هذه صفة للماء ، فلم يمنع منها عدم الحاجة من أهل الجنة إلى التطهير به .

والجواب الثاني : أن المقصود بالآية الامتنان بما أعده الله تعالى لخلقه في الجنة مما هو أعز مشروبا في الدنيا .

وأما قول جرير فهو دليل لنا ، لأنه قصد به المدح لريقهن بالطهور به مبالغة ، ولو كان معناه طاهرا لما كان مادحا ، لأن ريق البهائم طاهر أيضا ، وإنما بالغ بأن جعله مطهرا تشبيها بالماء .

وأما استدلالهم بأن كل فعول كان متعديا كان فاعله متعديا .

فالجواب عنه أنه إنما سوى بينهما في التعدي إذا أمكن الفرق بينهما من غير التعدي ، وليس يمكن الفرق بين الطهور والطاهر من غير التعدي . فثبت أن الفرق بينهما من جهة التعدي .

وأما قولهم : إنه لو كان متعديا لم ينطلق الاسم عليه إلا بعد وجود التعدي منه ، فهو أنه يجوز أن يسمى بصفة قد توجد في الباقي منه كقولهم : طعام مشبع ، وماء مروي ، نار محرقة ، وسيف قاطع .

وأما قوله : لو كان متعديا لتكرر الفعل منه .

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن هذه صفة لجنس الماء ، وجنس الماء يتكرر منه فعل الطهارة .

والثاني : أن كل جزء من الماء يتكرر منه الفعل في إمراره على العضو وانتقاله من محل إلى محل .

التالي السابق


الخدمات العلمية