الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وإذا كان كذلك فالإقرار لا يصح إلا بشروط أربعة : بمقر ، ومقر له ، ومقر به ، ومقر عنده .

فأما الشرط الأول : وهو المقر : فهو المخبر بالحق عليه ، والمقرون ضربان : مكلف ، وغير مكلف . فأما غير المكلف ، وهو الصبي ، والمجنون فإقرارهما باطل سواء كان بمال ، أو بدن ولا يتعلق به حكم في الحال ولا بعد البلوغ ، والإفاقة .

وجوز أبو حنيفة إقرار المراهق إذا كان بإذن أهله ، أو كان مأذونا له في عقد فأقر بدين صح بناء على صحة إسلامه وجواز عقده بإذن وليه ، واستدلالا بأن من صحت وصيته صح إقراره كالبالغ . وهذا خطأ لأن عدم التكليف يمنع من صحة الإقرار كالجنون ، ولأن كل إقرار منع منه الجنون منع منه الصغر كالإقرار بالبدن ، ولأن الأصل الذي بني عليه جواز إقراره أن [ ص: 5 ] ممن يصح إسلامه ويجوز عقده ، لا نسلمه بل لا يصح إسلامه ولا يجوز عقده وسيأتي الكلام فيه مستوفيا في موضعه إن شاء الله تعالى .

وأما قياسه على الوصية ففي جواز وصيته قولان :

أحدهما : باطلة : فعلى هذا سقط السؤال .

والثاني : جائزة .

فعلى هذا الفرق بين إقراره ووصيته : أن في لزوم إقراره إضرارا به فسقط . وفي صحة وصيته رفقا به فأمضيت . وأما المكلف فضربان :

محجور عليه ، وغير محجور عليه . أما غير المحجور عليه :

فهو البالغ الرشيد العاقل فإقراره صحيح إذا أقر مختارا وباطل إن أقر مكرها ، وسواء كان المقر رجلا ، أو امرأة مسلما ، أو كافرا ، عدلا ، أو فاسقا وإقرار جميعهم لازم .

وأما المحجور عليه فضربان :

أحدهما : من حجر عليه لأجل نفسه .

والثاني : من حجر عليه لأجل غيره .

فأما المحجور عليه لأجل نفسه فهو السفيه ، وإن أقر ببدن من قصاص ، أو حد نفذ إقراره فيه ؛ لأنه لا حجر عليه في بدنه ، وإن أقر بمال لم يلزم إقراره فيه ما كان الحجر عليه باقيا ، فإن فك حجره لم يلزم ذلك حكما لبطلان الإقرار ، ولزمه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان على يقين من لزومه وسواء كان ما أقر به حقا لله تعالى ، أو حقا لآدمي . فلو كان حين أقر سفيها لكن لم يحجر عليه الحاكم فإقراره لازم في المال ، والبدن جميعا ، وهو في الإقرار كالرشيد .

وأما المحجور عليه لأجل غيره فأربعة :

أحدهم : العبد المحجور عليه لأجل سيده .

والثاني : المفلس محجور عليه لأجل غرمائه .

والثالث : المريض محجور عليه لأجل ورثته .

والرابع : المرتد محجور عليه في حق بيت المال .

ومعنى الحجر في كل واحد منهم مختلف وسنفرد الحكم في إقرار كل واحد منهم .

أما العبد فإقراره على ضربين : [ ص: 6 ] أحدهما : في بدن كحد ، أو قصاص فإقراره به لازم واستيفاؤه في الحال واجب صدق السيد ، أو كذب .

والضرب الثاني : في مال ، فعلى ضربين :

أحدهما : عن جناية فإقراره به غير لازم في الحال إلا أن يصدق السيد فيتعلق الإقرار برقبته وتباع فيما أقر به من جنايته . وإن كان السيد مكذبا تعلق بذمته ويؤخذ به بعد عتقه ويساره .

والضرب الثاني : أن يكون عن معاملة فإن كان مأذونا له في التجارة كان إقراره لازما فيما بيده صدق السيد أم كذب ؛ لأنه مسلط عليه بالإذن . وإن كان غير مأذون له في التجارة كان إقراره متعلقا بذمته يؤخذ به بعد عتقه ، ويساره سواء صدق السيد أم كذب .

ونحن نستوفي شرح ذلك ، وما يتعلق بالخلاف فيه من بعد . وأما المفلس فإقراره لازم في حالة حجره لكن إن صدقه الغرماء كان المقر له شريكا له في ماله يخاصمهم بقدر ما أقر به ، وإن كذبه الغرماء ، فعلى قولين مبنيين على اختلاف قوليه في حجره هل يجري مجرى حجر السفه ، أو يجري مجرى حجر المرض .

أحدهما : أنه يجري مجرى حجر السفه ، فعلى هذا لا يشارك الغرماء به ويؤخذ به بعد فك حجره .

والثاني : أنه يجري مجرى حجر المرض ، فعلى هذا يشاركهم في ماله بالقدر الذي أقر . وأما المريض فإقراره لازم في المال ، والبدن وفيه مسائل تأتي مسطورة .

وأما المرتد فإقراره في بدنه لازم قبل الحجر وبعده ، وأما إقراره في ماله فإن كان بعد حجر الحاكم عليه فقد اختلف أصحابنا في حجره على وجهين :

أحدهما : أنه يجري مجرى حجر المرض ، فعلى هذا عقوده لازمة وإقراره نافذ .

والثاني ؛ أنه يجري مجرى حجر السفه ، فعلى هذا عقوده باطلة وفي إقراره وجهان .

وإن كان إقراره قبل حجر الحاكم عليه فقد اختلف أصحابنا : هل يصير محجورا عليه بنفس الردة أم لا ؛ على وجهين :

أحدهما : قد صار محجورا عليه ، فعلى هذا يكون إقراره على ما مضى .

والثاني : أنه لا يصير محجورا عليه إلا بحكم حاكم ، فعلى هذا يكون إقراره لازما نافذا .

[ ص: 7 ] فأما السكران فلا يخلو حال سكره من أحد أمرين :

إما أن يكون من معصية . أو من غير معصية .

فإن كان من غير معصية فإقراره باطل لا يلزم في مال ، ولا بدن كالمجنون ، والمغمى عليه ، ولا يؤخذ بشيء منه بعد إفاقته .

وإن كان سكره معصية فالمذهب لزوم إقراره في المال ، والبدن كما يقع طلاقه . وقد خرج المزني قولا في القديم أن طلاقه لا يقع ، فعلى هذا إقراره لا يلزم في مال ، ولا بدن .

فأما الذي يجن في زمان ويفيق في زمان ، فإن أقر في زمان جنونه بطل إقراره ، وإن أقر في حال إفاقته لزم إقراره .

فلو اختلفا بعد إفاقته هل كان الإقرار في حال الجنون أم الإفاقة ؟ فقال المقر : كنت عند الإقرار مجنونا ، وقال الآخر : بل كنت مفيقا ، فعلى وجهين ، فهذا حكم المقر .

قال الشافعي : ومن لم يجز بيعه لم يجز إقراره . وفيه لأصحابنا تأويلان :

أحدهما : من لم يجز بيعه بحال كالصبي ، والمجنون لم يجز إقراره في حال من الأحوال . وهذا قول ابن أبي هريرة .

والثاني : أن من لم يجز بيعه في شيء لم يجز إقراره في ذلك الشيء فهذا الكلام في الشرط الأول وهو مسألة الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية