الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وكان السبب في بيان حكم الحيض وما يلزم اجتنابه من الحائض ما روي أن [ ص: 380 ] أسيد بن حضير وعباد بن بشر وثابت بن الدحداح سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم الحيض والحائض ، واختلف في سبب سؤالهم ، فقال قتادة : كان سبب سؤالهم أن العرب ، ومن في صدر الإسلام يجتنبون مساكنة الحائض ومواكلتها ومشاربتها فسألوا عنه ليعلموا حكم الشرع فيه ، وقال مجاهد : بل كانوا يعتزلون وطأهن في الفرج ويأتوهن في أدبارهن مدة حيضهن فسألوا ليعلموا حكمه فيه ، فأنزل الله تعالى ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] .

فبدأ بتفسير الآية .

فأما قوله سبحانه : ويسألونك عن المحيض [ البقرة : 222 ] فالمحيض في هذا الموضع عبارة عن دم الحيض باتفاق أهل العلم ، وقوله هو أذى فالأذى هو ما يؤذي فسمى دم الحيض أذى : لأنه له لون ورائحة منتنة ونجاسة مؤذية مع منعه من عبادات وتغير أحكام ، وقوله فاعتزلوا النساء [ البقرة : 222 ] فيه تأويلان :

أحدهما : اعتزال جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه وهذا قول عبيدة السلماني استعمالا لعموم اللفظ .

والتأويل الثاني : أن المراد اعتزال وطئها دون غيره ، وهو قول الجمهور لرواية حماد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن اليهود كانت إذا حاضت منهن المرأة أخرجوها من البيت ولم يواكلوها ، ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله عز وجل ويسألونك عن المحيض قل هو أذى [ البقرة : 222 ] إلى آخر الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح ، فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه وروت صفية عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجري فيقرأ وأنا حائض وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني لأدنو إلى الحائض ، ومالي إليها ضرورة أي : ميل إليها لحاجة وقوله في المحيض في هذا المحيض الثاني ثلاث تأويلات :

أحدها : أنه دم الحيض كالحيض الأول .

والثاني : زمان الحيض ليعم زمان جريان الدم وما يتخلله من أوقات انقطاعه .

[ ص: 381 ] والثالث : مكان الحيض وهو الفرج كما يقال : مبيت ومقيل لمكان البيتوتة ، ومكان القيلولة ، وهو قول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور المفسرين .

وقوله ولا تقربوهن [ البقرة : 222 ] فيه قراءتان :

إحداهما : أنه تأكيد لقوله فاعتزلوا بالتخفيف وضم الهاء ، ومعناه : انقطاع الدم وهو قول مجاهد وعكرمة .

والثاني : أنه تحديد لآخر زمان التحريم وقوله حتى يطهرن فيه قراءتان والثانية : بالتشديد وفتح الهاء .

ومعناه : حتى يغتسلن .

وقوله فإذا تطهرن [ البقرة : 222 ] فيه قولان :

أحدهما : تطهرن من الدم بانقطاعه وهو قول أبي حنيفة .

والثاني : يطهرن بالماء ، وهو قول الجمهور وهو الصحيح : لأنه أضاف الطهارة إلى فعلهن وليس انقطاع الدم من فعلهن ، فلم يجز أن يكون مرادا وفي صفة هذه الطهارة لأهل التأويل ثلاثة أقاويل :

أحدها : غسل الفرج وهذا قول داود بن علي .

والثاني : الوضوء وهو قول طاوس ومجاهد .

والثالث : الغسل وهو قول ابن عباس وعكرمة والحسن وبه قال الشافعي وجمهور الفقهاء .

وقوله : فأتوهن من حيث أمركم الله [ البقرة : 222 ] فيه تأويلان :

أحدها : القبل المنهي عنه في حال الحيض دون الدبر وهو قول ابن عباس ومجاهد .

والثاني : من قبل طهرهن لا من قبل حيضهن ، وهذا قول عكرمة وقتادة .

والثالث : فأتوهن من قبل النكاح لا من قبل الفجور وهذا قول محمد بن الحنفية .

وقوله إن الله يحب التوابين [ البقرة 222 ] ويحب المتطهرين فيه ثلاث تأويلات :

أحدها : المتطهرين بالماء وهذا قول عطاء .

والثاني : المتطهرين من أدبار النساء أن يأتوها ، وهذا قول مجاهد .

والثالث : المتطهرين من الذنوب أن يعودوا فيها بعد التوبة منها وهذا محكي عن مجاهد أيضا .

[ ص: 382 ] فهذا ما جاء في كتاب الله تعالى من حكم الحيض ، وأما السنة فمدار الحيض فيها على ثلاثة أحاديث :

أحدها : حديث أم سلمة في المعتادة .

والثاني : حديث فاطمة بنت أبي حبيش في المميزة .

والثالث : حديث حمنة بنت جحش في المستحاضة .

فأما حديث أم سلمة فرواه الشافعي عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستنق بثوب ثم لتصلي .

وأما حديث فاطمة بنت أبي حبيش فرواه ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي ، فإنما هو عرق .

وأما حديث حمنة بنت جحش فرواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش قالت كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته في بيت أختي زينب فقلت يا رسول الله صلى الله عليك إن لي إليك حاجة وإنه لحديث ما بد منه وإني لأستحي منه فقال صلى الله عليه وسلم وما هو يا هنتاه فقالت إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما [ ص: 383 ] ترى قد منعتني الصلاة والصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا منها فإني أبعث لك الكرسف فإنه يذهب الدم قالت هو أكثر من ذلك قال فالتجمي قالت هو أكثر من ذلك قال فاتخذي ثوبا قالت هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجا فقال النبي صلى الله عليه وسلم سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزاك عن الآخر فإن قويت عليهما فأنت أعلم قال إنما هي ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلى أربعا وعشرين ليلة وأيامها أو ثلاثة وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإنه يجزيك وكذا افعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن فإن قويت على أن تؤخرين الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلي الظهر والعصر جميعا ثم تؤخرين المغرب ثم تغتسلين وتجمعين بين المغرب والعشاء فافعلي وتغتسلين عند الفجر ثم تصلين الصبح وكذلك فافعلي وصومي إن قويت على ذلك قال وهذا أحب الأمرين إلي .

التالي السابق


الخدمات العلمية