الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر ما وصفنا فادعى رجل على رجل ضمان مال ضمن تمام الدعوى أن يذكر قدر المال المضمون ؛ لأن ضمان المجهول عندنا باطل ولزومه على المضمون عنه ؛ لأن ضمان ما لا يلزم باطل فتصح الدعوى حينئذ بهذين الشرطين وليس تسمية المضمون عنه شرطا في الدعوى على الصحيح من المذهب فإذا كملت الدعوى بأن قال : ضمن لي ألفا دينار على غريم . سئل المدعى عليه الضمان عنها ، فإذا أنكر حلف وإن اعترف بالضمان على شرط الخيار ففيه ثلاثة مسائل :

إحداها : أن يقول قد ضمنت إلا بشرط الخيار ، أو يقول : إنما ضمنت بشرط الخيار ؛ لأنه إذا ابتدأ بقوله إنما فمعلوم من صيغة كلامه أنه يريد أن يصل الضمان بغيره فتصير الصلة لتقدم أمارتها كالمتقدمة على إقراره فيكون قوله في ذلك مقبولا ، ولا يلزمه بهذا القول ضمان لا يختلف فيه المذهب .

والمسألة الثانية : أن يقر بالضمان مطلقا ثم يدعي بعد انفصال كلامه أن ضمانه كان بشرط الخيار فقد لزمه الضمان بالإقرار ، ولا يقبل منه دعوى الخيار وهذا أيضا مما لم يختلف فيه المذهب كالاستثناء المتصل .

والمسألة الثالثة : أن يقر بالضمان موصولا بالخيار فيقول : ضمنت له ألفا على أني بالخيار ، فإن صدقه المدعي على الخيار فالضمان باطل وإن كذبه على الخيار وادعى إطلاق الضمان ففيه قولان منصوصان : [ ص: 80 ] أحدهما : أن قوله في ادعاء الخيار مقبول وإقراره بالضمان باطل ؛ لأنه غير مجمل في كلامه عرفا فوجب أن يحكم به شرعا كالاستثناء ، ولأنه لما كانت صلة إقراره بمشيئة الله تعالى مقبولة في رفع الإقرار كان صلته بما يصل من حكمه من الخيار مقبولة في بطلان الضمان ، ولأنه لما كان إقراره بالبيع إذا وصله بصفة يبطل معها مقبولا ، ولا يجعل في البيع مقرا وفي الفساد مدعيا وجب أن يكون إقراره بالضمان إذا وصله بما يبطل معه مقبولا ، ولا يبعض إقراره فيجعل في الضمان مقرا وفي الخيار مدعيا .

والقول الثاني : أن قوله في ادعاء الخيار مردود وإقراره بالضمان لازم ينقض إقراره ويحلف له المقر له وإنما كان كذلك ؛ لأن أصول الشرع مقررة على أن من أقر بما يضره لزمه ومن ادعى ما ينفعه لم يقبل منه وهو في الضمان مقر بما يضره وفي الخيار مع ما ينفعه ، ولأنه أسقط أول كلامه بآخره فصار كاستثناء جميع ما أقر به .

وعلى هذين القولين في تبعيض الإقرار إذا قال : له علي ألف قضيته إياها يقبل قوله على القول الأول في القضاء ، ولا يبعض إقراره ، ولا يقبل قوله على القول الثاني ويبعض عليه إقراره .

وهكذا لو قال : له علي ألف من ثمن خمر ، أو خنزير كان على هذين القولين فأما إذا قال : له علي ألف مؤجلة إلى سنة ، وقد اختلف أصحابنا فخرجه بعضهم على قولين ، وقال بعضهم يجوز ويقبل منه قولا واحدا ؛ لأنه لا يسقط بالتأجيل شيء من الإقرار . وجملة ذلك أن القرائن ، والصلاة أربعة أقسام :

أحدها : ما يقبل في الاتصال ، والانفصال وهو أن يقر بمال ثم يقول : من شركة كذا ، فيقبل منه وصل ، أو فصل .

والقسم الثاني : ما لا يقبل في الاتصال ، والانفصال وهو استثناء الكل كقوله له علي ألف إلا ألفا ، فلا يقبل منه وصل ، أو فصل لفساده في الكلام وإحالته في مفهوم الخطاب .

والقسم الثالث : ما يقبل في الاتصال ، ولا يقبل في الانفصال وهو استثناء البعض من الإقرار بالنقص ، والزيف ، وما لا يرفع جميع الإقرار إن وصل قبل ، وإن فصل لم يقبل ، فإن قيل فما الفرق بين استثناء الكل واستثناء البعض ؟ قيل من وجهين :

أحدهما : أن استثناء البعض مسموع في الكلام وصحيح في مفهوم الخطاب فجاز واستثناء الكل غير مسموع في كلامهم ، ولا يصح في مفهوم خطابهم فبطل لإحالة أن يكون كلاما صحيحا .

[ ص: 80 ] والثاني : أن استثناء البعض مثبت لحكم الاستثناء ، والمستثنى منه فصح واستثناء الكل مبطل لحكم الاستثناء ، والمستثنى منه فبطل الاستثناء ويصح المستثنى منه .

والقسم الرابع : ما لا يقبل في الانفصال واختلف قوله في قبوله في الاتصال وهو ما رفع جميع المتقدم من جهة الحكم ، والمعنى دون اللفظ وكان صحيحا في كلام الناس ومفهوم خطابهم كقوله : ضمنت على أني بالخيار ، أو : له علي ألف من ثمن خمر ، أو خنزير أو : له علي ألف قضيته ، أو : له علي مال مؤجل ، فهذا قد يكون بين الناس ويصح في كلامهم وإنما بطل بحكم الشرع لا بمفهوم الخطاب واستحالة الكلام باستثناء الكل الذي هو مستحيل في الكلام فيكون على قولين إن اتصل :

أحدهما : يقبل لصحته في الكلام .

والثاني : لا يقبل جمعا بين ما رفع أول كلامه لفظا وبين ما رفعه حكما .

التالي السابق


الخدمات العلمية