الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " فإن أقر جميع الورثة ثبت نسبه وورث وورث واحتج بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابن وليدة زمعة وقوله هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر .

قال الماوردي : قد ذكرنا أن إقرار الوارثين بمدعي البنوة يوجب ثبوت نسبه وهكذا لو كانوا جماعة وأقروا ، أو كان واحدا وأقر ؛ لأن المراعى إقرار من يحوز الميراث .

وقال مالك : لا يثبت النسب بإقرار الورثة وإنما يستحق به الميراث .

وقال أبو حنيفة : إن كان الوارث واحدا لم يثبت بإقراره النسب ، وإن كانوا عددا أقلهم اثنان ثبت النسب بإقرارهم لا من طريق الشهادة ؛ لأنه لا تعتبر فيها العدالة .

واستدل من منع لحوق النسب بإقرار الورثة بما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا مساعاة في الإسلام يعني السعي إلى ادعاء النسب .

وعن عمر - رضي الله عنه - أنه كان لا يورث الحميل وهو الذي يحمل نسبه على غير مقر به ، والميت غير مقر وإن أقر وارثه .

قالوا : ولأن ثبوت النسب في مقابلة نفيه فلما لم ينتف النسب بنفي الوارث ولعانه لم ينتف بتصديقه وإقراره ويتحرر منه قياسان :

أحدهما : أنه أحد حالي النسب فلم يملكه الوارث كالنفي .

والثاني : أن من لم يملك نفي النسب لم يملك إثباته كالأجانب .

قالوا : ولأن الولاء لحمة كلحمة النسب فلما لم يكن للورثة إلحاق ولاء بالميت بعتقهم لم يكن لهم أن يلحقوا به نسبا بإقرارهم .

[ ص: 93 ] ويتحرر منه قياسان :

أحدهما : أنه أحد اللحمتين فلم يكن للورثة إثباته كالولاء .

والثاني : أن من لم يكن له إثبات الولاء لم يكن له إثبات النسب كالأوصياء .

والدليل على ما قلناه من ثبوت النسب بإقرارهم من خمسة أوجه :

أحدها : ما رواه سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابن أمة زمعة ، فقال سعد : عهد إلي أخي في ابن وليدة زمعة أن أقبضه فإنه ابنه ، وقال عبد بن زمعة : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر فألحق النبي - صلى الله عليه وسلم - الولد بعبد بن زمعة باعتراف أبيه وجعله أخاه . فاعترضوا على هذا الحديث من أربعة أوجه :

أحدها : أن قالوا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعله عبدا لعبد ، ولم يجعله أخاه ، وروي أنه قال : هو لك عبد . فعن هذا جوابان :

أحدهما : أن مسددا روى عن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هو أخوك يا عبد .

والثاني : أن عبد بن زمعة قد أقر بحريته وولادته حرا على فراش أبيه فلم يجز بعد اعترافه بحريته أن يحكم له برقه .

وما رووه من قوله : هو لك عبد فإنما أشار إليه بالقول اختصارا يحذف النداء كقوله تعالى : يوسف أعرض عن هذا [ يوسف : 29 ] . والاعتراض الثاني عليه :

أن قالوا إنما ألحقه بالفراش لا بالإقرار وبين ذلك بقوله الولد للفراش ، والجواب عنه : أنه قد أثبت الفراش بإقراره وإقراره بالفراش إقرار بالنسب لثبوت النسب بثبوت الفراش فلم يكن فرق بين الإقرار بالفراش الموجب لثبوت النسب وبين الإقرار بالنسب الدال على ثبوت الفراش .

والاعتراض الثالث عليه :

أن قالوا : لا دليل لكم فيه ؛ لأن عبدا هو أحد الوارثين وسودة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أخته ، ولم تكن منها دعوى له ، ولا إقرار به ، ولا دعوى له . وإقرار أحد الورثة لا يوجب بالإجماع ثبوت النسب . وعنه جوابان :

أحدهما : أن عبدا هو وارث أبيه وحده ؛ لأن سودة كانت قد أسلمت قبل موت أبيها وكان عبد على كفره فكان هو الوارث لأبيه الكافر دون أخته المسلمة ، ألا ترى إلى ما روي عنه أنه قال : أسلمت أختي سودة فحملتها وليتني أسلمت يوم أسلمت .

والثاني : أن سودة قد كانت معترفة به واستنابت أخاها في الدعوى ؛ لأن النساء من [ ص: 94 ] عادتهن الاستنابة ، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالاحتجاب منه فلولا أنها كانت معترفة به كانت مقيمة على الاحتجاب الأول .

والاعتراض الرابع عليه : أن قالوا : أمره - صلى الله عليه وسلم - لسودة بالاحتجاب منه دليل على أنها ليست أختا له . وعنه جوابان :

أحدهما : لقوة الشبه الذي رأى فيه من عتبة أمرها بالاحتجاب إما كراهة أن يكون في نفسها نزاع من قضائه ، وإما استظهار لما تتخوفه باطنا من فساد أصابه .

والثاني : أن للزوج منع زوجته من الظهور لأخيها وأهلها فلم يكن في المنع دليل على اختلاف النسب .

والدليل الثاني من المسألة : ما روى سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه فقد لحق بمن استلحقه . وهذا نص عام في موضع الخلاف .

والدليل الثالث : أن الورثة يخلفون مورثهم في حقوقه إثباتا كالحجج ، والبينات وقبضا كالدين ، والقصاص ، والنسب حق له إثباته حيا فكان للورثة إثباته ميتا . ويتحرر منه قياسان :

أحدهما : أن ما ملك المورث إثباته من حقوقه ملك الورثة إثباته بعد موته كالدين ، والقصاص .

والثاني : أن من ملك إثبات الحقوق ملك إثبات الأنساب كالموروث .

والدليل الرابع : أن الإقرار بالنسب يتعلق به حكمان : ثبوته وإرثه .

فلما استحق الإرث بإقرارهم ثبت النسب بإقرارهم ويتحرر منه قياسان :

أحدهما : أن من ثبت الميراث بإقراره ثبت النسب بإقراره كالموروث .

والثاني : أن ما لزم من حقوق النسب بإقرار الموروث لزم بإقرار الوارث كالميراث .

والدليل الخامس : أن إقرار الورثة بالحق أقوى ثبوتا من الشهادة بالحق فلما ثبت النسب بالشهادة فأولى أن يثبت بإقرار الورثة ، ويتحرر من اعتلاله قياسان :

أحدهما : أن ما صح ثبوته بالشهادة فأولى أن يصح ثبوته بإقرار الورثة كسائر الحقوق .

والثاني : أن ما صح أن يثبت بالحقوق صح أن يثبت به الأنساب كالشهادة ، والله أعلم .

فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - ولا مساعاة في الإسلام فوارد باستلحاق الأنساب بالزنى ؛ لأن تمام الخبر دال عليه وهو قوله لا مساعاة في الإسلام ومن ساعى في الجاهلية فقد لحقه بعصبته ومن ادعى ولدا من غير رشدة فلا يرث ، ولا يورث .

وأما الجواب عما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان لا يورث الحميل فمن وجهين :

أحدهما : أنه وارد فيمن حمل نسبه على غيره مع إنكار ورثته .

[ ص: 95 ] والثاني : أنه وارد في المسبي من دار الشرك إذا أقر بنسب ليرتفع إرث الولاء به .

وأما الجواب عن استدلالهم بنفي النسب فهذا باطل بالابن لو أقر لحق ولو أراد نفي أب لم يجز فكذا الأخ لو أقر بأخ جاز ولو نفاه لم يجز . وأجاب أبو علي الطبري عن ذلك في إفصاحه أن قال : هما سواء ؛ لأن النسب لا يثبت إلا باجتماعهم ودخول المقر به في جملتهم ، فكذلك لا ينتفي إلا باجتماعهم ودخول المنفي في جملتهم فيقول إذا نفوه عن أبيهم : لست بابن أبيكم ، تصديقا لهم فينتفي . واختلف أصحابنا فيما أجاب به أبو علي هل يصح في الحكم أو لا ؛ فكان أبو حامد الإسفراييني يمنع من صحته فيقول : إن من لحق نسب من لم ينتف عنه باجتماعه مع الورثة على نفيه . وقال غيره : هو في الحكم صحيح ؛ لأنه لما ثبت النسب باتفاق الفريقين انتفى باتفاق الفريقين .

وأما الجواب عن استدلالهم بالولاء فهو أنهما سواء ؛ لأنهم أقروا بنسب متقدم ولو استحدثوه لم يجز وبطل إلحاقهم بولاء مستحدث ولو أقروا بولاء متقدم جاز ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية