الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت وجود الشفعة ، فهي مستحقة في عراص الأرضين ، ويكون ما اتصل بها من البناء والغراس تبعا . وإن كان المبيع منها مشاعا ، كانت الشفعة فيه على قول من أوجبها إجماعا . وإن المبيع محوزا ، فالذي عليه جمهور الناس أنها غير واجبة . وبه قال من الصحابة : عمر وعثمان وعلي في أصح الروايتين . ومن التابعين : سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير . ومن الفقهاء : ربيعة ، ومالك ، وأحمد وإسحاق وأهل الحرمين . وقال أبو حنيفة ، وصاحباه وسفيان الثوري : إن شفعة المحوزة مستحقة للجار . وليس لهم فيها سلف وربما أضافوه إلى ابن مسعود .

وإن عفا الجار عنها ، كانت لمن يليه في القريب ثم لمن يليه إلى آخر الجوار ، إلا أن تكون الطريق نافذة ، فلا تجب لغير الجار الملاصق ، استدلالا برواية عمرو بن الشريد عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الجار أحق بصقبه وروي بسقبه يعني بقربه .

[ ص: 228 ] وبرواية شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : جار الدار أحق بدار الجار ، أو الأرض .

وبرواية عبد الملك عن عطاء عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدة . وروى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الخليط أحق من الشفيع ، والشفيع أحق من غيره .

وروى عمرو بن الشريد بن سويد عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أرضا بيعت ليس لي فيها قسم ، ولا شرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت أحق بشفعة جارك يا شريد .

قالوا : ولأنه متصل بالبيع فجاز أن يستحق به الشفعة كالخلطة قالوا : ولأن الشفعة إنما وجبت تخوفا من سوء عشرة الداخل عليه .

هذا قد يوجد في الدار كوجوده في الخليط ، فاقتضى أن تجب الشفعة للجار كوجود بها للخليط .

ودليلنا ما رواه الشافعي - رضي الله عنه - عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وهذا وإن كان مرسلا فمرسل سعيد عند الشافعي - رضي الله عنه - حسن ، ثم قد رواه مسندا عن مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة فكان من هذا الحديث دليلان :

أحدهما : قوله : " الشفعة فيما لم يقسم " فكان دخول الألف واللام مستوعبا لجنس الشفعة ، فلم تجب في المقسوم شفعة .

[ ص: 229 ] والثاني : قوله : " فإذا وقعت الحدود فلا شفعة " فصرح بسقوط الشفعة مع عدم الخلطة .

فإن قيل : فإنما نفى الشفعة عنه بالقسمة الحادثة بعده ففيه جوابان :

أحدهما : أنه محمول على عموم القسمة حادثة ومتقدمة .

والثاني : أنه إنما نفى الشفعة عن المقسوم بما أثبتها في غير المقسوم فلما أثبتها في غير المقسوم بالبيع دل على أنه نفاها عن المقسوم بالبيع ، وروى أبو داود عن أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر رضي الله عنه قال : " إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " .

وهذا أقوى استدلالا بالوجهين المذكورين من الأول ؛ لأن في قوله ( إنما ) إثباتا لما اتصل بها ونفيا لما انفصل عنها كقوله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات .

فإن قيل إنما نفى الشفعة بصرف الطرقات ، وهي للجار غير مصروفة . قيل : الطرقات التي تصرف بالقسمة مختصة باستطراق المشاع الذي يستطرقه الشريك ليصل به إلى ملكه فإذا وقعت به القسمة انصرف استطراقه من ملك شريكه فأما غيره من الطرقات المستحقة فلا تنصرف أبدا .

وروى ابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة ، أو عن أبي سعيد ، أو عنهما جميعا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها .

والدليل من طريق القياس هو أن تمييز المبيع يمنع من وجوب الشفعة فيه كالذي بينهما طريق نافذة ؛ لأن المبيع إذا لم يكن له حال يترقب فيها المقاسمة لم يثبت فيه الشفعة قياسا على مشاع الغراس ، والأبنية ، ولأن أصول الشرع مقررة على الفرق بين أحكام المال المشترك وغير المشترك ، ألا ترى أن من أعتق حصة له من عبد قوم عليه باقيه ، ولا يقوم عليه غيره ولو أعتق بعض عبده عتق جميعه ، ولا يعتق غيره ولو بدأ إصلاح بعض حائطه حكم بإصلاح جميعه ، ولا يحكم بإصلاح غيره .

فكانت شواهد هذه الأصول توجب في الشفعة إذا ثبتت في الشركة أن تنتفي عن غير الشركة ؛ لأن الشفعة إنما وجبت لدفع الضرر بها لا لدخول الضرر فيها ، وفي وجوبها للجار [ ص: 230 ] ضرر داخل لتقاعده بالمالك في بدل النجش من الثمن لتثبته بأن غيره لا يقدم على ابتياعها مع علمه بشفعته ، ولا يوجد مثل ذلك في المشترك ؛ لأن الشريك يقدر على دفع هذا الضرر بمقاسمة شريكه ، وما كان موضوعا لرفع الضرر لم يجز أن يدخل فيه الضرر ؛ لأن استحقاق الشفعة في المشترك إنما هو لضرر لا يقدر على دفعه وهو مئونة القسمة وهذا المعنى معدوم في غير المشترك .

فأما الجواب عن قوله : الجار أحق بصقبه فمن وجهين :

أحدهما : أنه أبهم الحق ، ولم يصرح به فلم يجز أن يحمل على العموم في مضمر ؛ لأن العموم مستعمل في المنطوق دون المضمر .

والثاني : أنه محمول على أنه أحق بالفناء من الذي بينه وبين الجار ممن ليس بجار ، أو أن يكون مرتفقا به ، وقيل : بل هو في البادية إذا انتجعوا أرضا فنزلوها كان جار المنزل المقارب لهم أحق بالمكان إذا رحل النازل عنه لصقبه ، والصقب عمود الخيمة على هذا الاستعمال ، وتأويله على الاستعمال الأول القرب ومنه قول ابن قيس الرقيات :


كوفية نازح محلتها لا أمم دارها ولا صقب



وأما الجواب عن الحديث الثاني من قوله صلى الله عليه وسلم : جار الدار أحق بدار الجار فرواية الحسن عن سمرة واختلفوا في لقاء الحسن سمرة فقال بعضهم لم يلقه وقال آخرون لقيه ، ولم يرو عنه إلا حديثا واحدا وليس هو هذا الحديث ، ثم لو سلم لكان عنه الجوابان المذكوران .

وأما الجواب عن الحديث الثالث من قوله صلى الله عليه وسلم : الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا فرواية عبد الملك بن أبي سليمان وكان ضعيفا وقال شعبة : لو روى عبد الملك حديثا آخر مثل حديث الشفعة بطل حديثه . ثم يحتمل على تسليمه على عرض هذا المبيع على جاره .

وأما الجواب عن الحديث الرابع من قوله صلى الله عليه وسلم : الخليط أحق من الشفيع ، والشفيع أحق من غيره هو حديث منقطع وإن صح فمحمول على أنه أحق عند الطلب وقت الشراء .

وأما الجواب عن الحديث الخامس من قوله - صلى الله عليه وسلم - للشريد : أنت أحق بشفعة جارك يا شريد فمحمول على ما ذكرنا .

[ ص: 231 ] ثم لو سلم استدلالهم على هذه الأخبار لكان محمولا على الجار الشريك ؛ لأن اسم الجوار يختص بالقريب ، والشريك أقرب من اللصيق فكان أحق باسم الجوار ، وقد أطلقت العرب ذلك على الزوجة لقربها فسمتها جارة . قال الأعشى :


أجارتنا بيني فإنك طالقة     وموموقة ما كنت فينا ووامقة
وبيني فإن البين خير من العصا     وأن لا تزالي فوق رأسي بارقة
أجارتنا بيني فإنك طالقة     كذاك أمور الناس تغدو وطارقة
حبستك حتى لامني الناس كلهم     وخفت بأن تأتي لدي ببائقة
وذوقي فتى حي فإني ذائق     فتاة لحي مثل ما أنت ذائقة



وكان السبب في قول الأعشى ذلك أنه تزوج امرأة كرهه قومها وأخذوه بالنزول عنها فلم يقتنعوا منه بالطلقة الأولى ، ولا بالثانية فلما طلقها الثالثة كفوا عنه فعند ذلك قال عروة بن الزبير نزل الطلاق موافقا لطلاق الأعشى .

وأما الجواب عن قياسهم على الخلطة فالمعنى فيها الخوف من مئونة القسمة .

وأما الجواب عن قولهم : بأنها وجبت في الخلطة تخوفا من سوء عشرة الداخل عليه "

فهو أن سوء العشرة مما يجب منع السلطان منه فصار مقدورا على دفعه بغير الشفعة وإنما وجبت الشفعة لأجل ما لا يمكن دفعه إلا بالشفعة وليس ذلك إلا مئونة القسمة ؛ لأنها حق لا يمكن دفعه عند طلبها إلا بالشفعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية