الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " ولو قاسم وبنى قيل للشفيع إن شئت فخذ بالثمن وقيمة البناء اليوم ، أو دع ؛ لأنه بنى غير متعد فلا يهدم ما بنى ، ( قال المزني ) رحمه الله : هذا عندي غلط وكيف لا يكون متعديا ، وقد بنى فيما للشفيع فيه شرك مشاع ولولا أن للشفيع فيه [ ص: 267 ] شركا ماكان شفيعا إذ كان الشريك إنما يستحق الشفعة ؛ لأنه شريك في الدار والعرصة بحق مشاع فكيف يقسم وصاحب النصيب وهو الشفيع غائب ، والقسم في ذلك فاسد ، وبنى فيما ليس له فكيف يبني غير متعد والمخطئ في المال والعامد سواء عند الشافعي ، ألا ترى لو أن رجلا اشترى عرصة بأمر القاضي فبناها فاستحقها رجل أنه يأخذ عرصته ويهدم الباني بناءه ويقلعه في قول الشافعي - رحمه الله - فالعامد والمخطئ في بناء ما لا يملك سواء " .

قال الماوردي : وصورة هذه المسألة في رجل اشترى شقصا من دار وقاسم عليه وبنى في حصته ، وحضر الشفيع مطالبا بشفعته . قال الشافعي رضي الله عنه : قيل للشفيع إن شئت فخذ الشقص بثمنه وبقيمة البناء قائما ، ولا يجبر المشتري على قلعه ؛ لأنه بناه غير متعد .

وهكذا عمارة الأرض للزرع وإن كانت آثارا .

قال المزني : هذا غلط من الشافعي رضي الله عنه ؛ لأن القسمة إن وقعت مع الشفيع فقد بطلت شفعته وصحت القسمة ، وإن لم يقاسمه الشفيع فالقسمة باطلة ، والشفعة واجبة فلم يجتمع صحة القسمة مع بقاء الشفعة .

وهذا الذي اعترض به المزني على الشافعي - رضي الله عنه - من تنافي بقاء الشفعة وصحة القسمة غلط ؛ لأنه قد تصح القسمة مع بقاء الشفعة من خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون الشفيع غائبا ، وقد وكل في مقاسمة شركائه وكيلا ، فيطالب المشتري الوكيل بمقاسمته على ما اشترى . فيجوز للوكيل أن يقاسمه لتوكيله في المقاسمة ، ولا يجوز أن يطالبه بالشفعة ؛ لأنه غير موكل في طلب الشفعة ، ويكون الشفيع على شفعته بعد القسمة ويكون المشتري غير متعد في البناء .

والوجه الثاني : أن لا يكون للشفيع الغائب وكيل في القسمة فيأتي المشتري الحاكم فيسأله أن يقاسمه عن الغائب . فيجوز للحاكم مقاسمة المشتري إذا كان الشريك بعيدا لغيبة ، وليس له أن يأخذ للغائب بالشفعة ؛ لأن الحاكم لا يأخذ بالشفعة إلا لمولى عليه ، ولا تبطل شفعة الغائب بمقاسمة الحاكم عنه ، والمشتري غير متعد ببنائه .

والوجه الثالث : أن يذكر المشتري للشفيع ثمنا موفورا فيعفو عن الشفعة لوفور الثمن ويقاسم المشتري غير متعد ببنائه ؛ لأنه بالكذب متعد في قوله لا في قسمته وبنائه ، فصار كرجل ابتاع دارا بعبد قد دلسه بعيب ثم بنى ووجد البائع بالعبد عيبا فعليه إذا رد العبد واسترجع الدار أن يدفع إلى المشتري قيمة البناء قائما ؛ لأنه بنى غير متعد في فعله وإن دلس كان كاذبا في قوله .

[ ص: 268 ] والوجه الرابع : أن ينكر المشتري الشراء ، ويدعي الهبة ، فيكون القول قوله مع يمينه ، ولا شفعة عليه في الظاهر ، فيقاسمه الشريك ثم يبني ، وتقوم البينة عليه بعد بنائه بالشراء فالشفعة واجبة مع صحة القسمة ، ولا يكون متعديا بالبناء مع جحوده للشراء ؛ لأنه تعدى في القول دون الفعل .

والوجه الخامس : أن يكون الشفيع طفلا أو مجنونا فيمسك الولي عن طلب الشفعة ، ويقاسم المشتري ، ثم يبلغ الطفل ، ويفيق المجنون فتكون له الشفعة مع صحة القسمة ، ولا يكون إمساك الولي عن الشفعة مبطلا للقسمة ، ولا مقاسمته مبطلا للشفعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية