الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " والذي يبتلى بالمذي فلا ينقطع مثل المستحاضة يتوضأ لكل صلاة فريضة بعد غسل فرجه ويعصبه " .

[ ص: 442 ] قال الماوردي : وقد مضى الكلام في الحائض والنفساء وفي حكم المستحاضة وذات الفساد فأما المستحاضة فحكمها فيما يلزمها من العادات ، وتستبيحه من القرب حكم النساء الطاهرات إلا في الطهارة وحدها ، فقد اختلف الناس فيها على ثلاثة مذاهب :

أحدها : وهو مذهب الشافعي أن عليها أن تتوضأ لصلاة كل فريضة ، ولا يجوز أن تجمع بالوضوء الواحد بين فرضين .

والمذهب الثاني : وهو قول أبي حنيفة ، أنها تتوضأ لوقت كل فريضة ، وتصلي بذلك الوضوء ما شاءت من الفروض والنوافل ، ما لم يخرج الوقت .

والمذهب الثالث : وهو قول مالك أنها كغيرها من النساء لا وضوء عليها إلا من حدث ، غير الاستحاضة .

فأما أبو حنيفة فاستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة ، ولأن كل طهارة صح أن يؤدى بها النفل صح أن يؤدى بها الفرض قياسا على غير المستحاضة ، ولأنها طهارة عذر فوجب أن يتقدر بالوقت دون الفعل ، قياسا على المسح على الخفين . وأما مالك فإنه بنى ذلك على أصله في أن النادر لا وضوء فيه ، ودم الاستحاضة نادر ، والدليل على وجوب الوضوء لكل فريضة ما روى شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المستحاضة " تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي " والوضوء عند كل صلاة وتصوم وتصلي وروى حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر خبرها قال : ثم اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة .

ذكر هذين الحديثين أبو داود في سننه ، ولأنها طهارة ضرورة ، فلم يجز أن تجمع بها بين فرضين قياسا على فرضه في وقتين ، ولأن كل من لم يجز أن يصلي بعد فرضه إذا لم يجز أن يصلي بعد فرضه قضاء كالمحدث .

فأما الجواب عما استدل به أبو حنيفة من الخبر فمن وجهين :

أحدهما : أن للفائت وقتا لقوله صلى الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فذلك وقتها " فصار أمره بالوضوء لوقت كل صلاة يتناول الفوائت وغيرها .

والثاني : أن الصلاة تجب بالوقت ، فصار أمره بالوضوء لوقت كل صلاة أمرا بالوضوء لكل صلاة : لأن المقصود بالوضوء الصلاة دون الوقت .

وأما قياسه على المتنفل ففاسد الموضوع : لأن النفل أخف حالا ، وأقل شروطا والفرض أغلظ حالا وآكد شروطا ، فلم يجز مع اختلاف موضوعهما بالتخفيف والتغليظ أن [ ص: 443 ] يجمع بينهما فيما اختلفا فيه من تخفيف وتغليظ على أن المعنى في أصله المردود إليه من طهارة غير المستحاضة أنها طهارة يصلى بها الفروض المؤداة .

وأما قياسهم على المسح على الخفين فلا يصح ، لأن المسح طهارة رفاهية ، وطهارة المستحاضة طهارة ضرورة ، ثم المعنى في المسح أنها لما جاز أن يؤدي به فرضين في وقتين جاز في وقت ، وهاهنا بخلافه ، وأما مالك فقد قدمنا من الدليل على الأصل الذي رده إليه ما أغنى عن إعادته .

التالي السابق


الخدمات العلمية